مما لاشك فيه أن تكرار العمليات الإرهابية داخل القارة الأوروبية لم يعد مجرد موجة عابرة تقتضي اتخاذ إجراءات أمنية تقليدية، حيث أصبحت أوروبا أرضاً خصبة للعمليات الإرهابية غير التقليدية، مثل الدهس والطعن، والتي يتبناها تنظيم "داعش"، والتى برزت بصورة واضحة من خلال هجوم برشلونة الإرهابى، فى السابع عشر من أغسطس الجارى، الأمر الذى دفع رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي إلى التصريح عقب الهجوم بـ "أن الحرب على الإرهاب هي اليوم الأولوية الأولى للمجتمعات الحرة والمنفتحة مثل مجتمعاتنا. إنه تهديد عالمي، والرد يجب أن يكون عالميا".
وقد تزامن انتشار الهجمات الإرهابية في الداخل الأوروبي مع انحسار التنظيم، وتراجع نفوذه في سوريا أو العراق، خاصة بعد الخروج من "الموصل" و"تلعفر"، وقبلها من "حلب" السورية، فضلا عن تهديد معقله الرئيسى فى "الرقة"، على يد قوات سوريا الديمقراطية، ورغبته فى تعويض تلك الخسائر عبر شن هجمات إرهابية خارجية، عبر مناصريه ومؤيديه، وهم ما يطلق عليهم "الذئاب الداعشية المنفردة"، وذلك لإرسال رسائل مزدوجة، مفادها أنه لم يتأثر بفقدان نفوذه في العراق وسوريا، وأنه لا يزال قادرًا على تنفيذ عمليات داخل الدول الأوروبية، الأمر الذي قد يدفع آخرين من المتعاطفين معه لتنفيذ عمليات مماثلة في مناطق متباعدة من العالم.
واقع الإرهاب في أوروبا:
تعددت العمليات الإرهابية منذ يوليو 2016 إلى أغسطس 2017، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية (8) عمليات فى كل من فرنسا وبريطانيا، و(6) عمليات فى ألمانيا، فضلا عن عمليات أخرى فى بلجيكا وبروكسل، إضافة إلى عملية برشلونة الأخيرة. وقد تنوعت تلك العمليات مابين الدهس بالمركبات، أو طعن بالسكين. ومن الملاحظ تركيز التنظيم على استهداف القارة الأوروبية، خاصة غرب أوروبا، وليس شرقها، حيث استطاع الغرب الأوروبي إرساء قواعد التعايش بين المسلمين الموجودين في المجتمع الأوروبي. هذا ما استغله التنظيم للأسف فى تجنيد بعض الشباب المسلم المغرر به، من خلال نشر أفكاره ومعتقداته فى أوساطهم، حتى يتمكن من استغلالهم فى العمليات الإرهابية داخل فى القارة الأوروبية.
وربما هذا ما دفع التنظيم فى وقت مبكر إلى ضم مقاتلين أجانب لتميزهم بالجرأة والتزام الفكري الصارم بمعتقدات التنظيم، حيث بلغ عدد المقاتلين الأجانب داخل صفوف "داعش" نحو 30 ألف مقاتل في العراق وسوريا من نحو 86 دولة من مناطق مختلفة في العالم، ينتمي عدد غير قليل منهم الى بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، الأمر الذي يطرح سؤالاً: هل يتزايد عدد العمليات الإرهابية في أوروبا خلال الفترة المقبلة؟
استراتيجية "داعشية" جديدة:
يرجع تزايد عدد العمليات الإرهابية إلى تبني تنظيم "داعش" استراتيجية مختلفة، خاصة بعد هزائمه الأخيرة في سوريا والعراق، حيث بدأ التنظيم ينتقل من فكرة المحافظة على أراضي دولة الخلافة المزعومة إلى فكرة تنفيذ عمليات إرهابية الخارجية، عبر من يتعاطفون معه في الدول الغربية من أجل إسقاط أكبر عدد من الضحايا، ينتمون للعديد من الدول المختلفة، لبث شعور عالمي بعدم الأمان، بسب أعضائه غير المعروفين الذين يتم تجنيدهم عبر شبكة الإنترنت، أو من خلال تنشيط خلايا إرهابية للتنظيم في الغرب.
وقد عمل التنظيم على عولمة فكره المتطرف، من خلال تطوير أساليبه الاستقطابية في تجنيد عناصره المتطرفة، وتنويع أدواته الإرهابية، وابتكار أساليب جديدة للعنف مدعومة بخلفية عقائدية، وفي ظل هزائمه في سوريا والعراق. وبحسب رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية (M16) فـ"إن هياكل التخطيط الهجومية الخارجية المنظّمة للغاية داخل تنظيم الدولة تخطط لأساليب جديدة للعنف ضد المملكة المتحدة وحلفائها دون الحاجة إلى مغادرة سوريا حتى في الوقت الذي يواجه فيه التنظيم ضغوطات عسكرية".
تهديدات متعددة.
فى ظل حرص تنظيم "داعش على استهداف القارة الأوروبية، التى يعدّها، واحدا من أهم أعدائه، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. لذا، فإن الدول الأوروبية غالبا ستعانى خلال المرحلة القادمة عددا من التهديدات، خاصة فى ظل تراجع التنظيم فى العراق وسوريا، يمكن تحديد أهمها فى الأتى:
هجمات "الذئاب المنفردة": وهم الأشخاص المتأثرون بأفكار التنظيم من خلال الرسائل الإعلامية التي يبثها التنظيم، دون أن يكونوا مرتبطين به تنظيمياً، ولكنهم على استعداد لتنفيذ عمليات عنيفة، سواء كانت بأسلحة تقليدية، مثل البنادق والمتفجرات، أو من خلال وسائل غير تقليدية، مثل الدهس بالسيارات، الذى يعد واحدة من أبرز الوسائل، حيث يعد "داعش" من أنجح التنظيمات الإرهابية في إلهام المتعاطفين معه لتنفيذ عمليات الإرهاب الفردي.
هجمات المقاتلين "العائدين": حرص "داعش" منذ ظهوره على استقطاب مقاتلين أجانب وذلك لجرأتهم الشديدة والتزامهم الفكري والتنظيمي، وتحقيقاً لفكرة الأممية. لذا، من المحتمل أن يقوم عدد من هؤلاء العائدين بشن هجمات إرهابية، عقب عودتهم إلى بلادهم، خاصة فى ظل وجود العديد من المقاتلين الأوروبيين فى صفوف "داعش"، لاسيما أنهم سيعدون وهم محملون بالأفكار المتطرفة والعنيفة.
الثغرات الأمنية: وعلى الرغم من تمكن المؤسسات الأمنية الأوروبية من إحباط مخططات إرهابية متعددة، وتفكيك شبكات من الخلايا الإرهابية، بينها واحدة مرتبطة بتنظيم "داعش"، والقبض على بعض العناصر المتطرفة والمرتبطة بالتنظيم، فإن إجراءات الأمن المشددة لم تمنع تنفيذ سلسلة العمليات الأخيرة التي أكدت أن تأمين المدن العالمية الكبرى تحول إلى معضلة أمنية معقدة تتطلب إجراءات واستراتيجيات غير تقليدية.
معتقدات فكرية مؤثرة:
إن القتل عند أصحاب الفكر التكفيري يعد غاية، وليس وسيلة. فلقد أعلن التنظيم أن دولته المزعومة قامت على القتل من منطلق أن القتال الدائم هو تحقيق لفريضة الجهاد، لذلك يسرف التنظيم في قتل مخالفيه، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين. ويعتمد تنظيم الدولة على عدة معتقدات ويرسخها لدى عناصره، ومن بينها :
حتمية المواجهة: من أهم القواعد الفكرية التكفيرية التي يعتمد عليها التنظيم، حيث تنطلق من وجوب فكرة المواجهة مع الطرف الآخر، سواء في المجتمعات الغربية الكافرة، أو الأنظمة الحاكمة المحلية الكافرة، وهو ما يترتب عليه إيمان التنظيم بعقيدة الاستحلال، إذ يصبح المجتمع الكافر مجتمعا مستباح المال، والدم، والعرض.
القتل الميسر: اعتماد التنظيم على فكرة قتل الكافر بأبسط الطرق وأيسرها، وهو ما يفسر انتشار عمليات الدهس بالمركبات والطعن، والتي لا تتطلب مهارات خاصة، حيث كانت الدعوة من أبى محمد العدناني لأعضاء التنظيم ومؤيديه لاستغلال تلك الوسائل فى العمليات الإرهابية، لأنها تسهل القتل بشكل كبير، لاسيما أنها لا تحتاج إلى مهارة فى التنفيذ.
إرهاب الممكن: وهو نمط جديد من الإرهاب، كشف عنه الرسالة الصوتية للقيادي بـ"داعش" أبى محمد العدناني في مايو 2016، والتي طالب فيها عناصر التنظيم وأتباعه، والمتعاطفين معه باستخدام جميع الوسائل المتاحة لتنفيذ الهجمات الإرهابية، مثل، الطعن، أو القذف بالحجارة، أو الدهس بالسيارة، وذلك في حالة ضعف خبراتهم القتالية، وعدم قدرتهم على الحصول على متفجرات أو أسلحة بسبب الإجراءات الأمنية المشددة.
وبالتالى، فإن من المرجح أن تتصاعد وتيرة العمليات الإرهابية في الدول الأوروبية، خلال الفترة المقلبة، خاصة بعد هزائمه المتوالية فى العراق وسوريا، ورغبته في بث رسائل تطمين وثقة للمتعاطفين معه بأنه لا يزال قادرًا على البقاء، وعلى تنفيذ عمليات مؤثرة في الدول الغربية ضمن استراتيجية الانتقام التي يتبعها التنظيم، والتي ستؤدي إلى تزايد عمليات استهداف الأهداف المدنية الرخوة التي يصعب تأمينها، خاصة مناطق تجمعات المدنيين في المدن الكبرى.
يفرض ذلك الأمر على الحكومات الأوروبية تطوير خططها الأمنية، ورفع مستوى التنسيق الأمني والاستخباراتى، واتخاذ الإجراءات الأمنية، مثل تعزيز التعاون الاستخباراتي بين الدول الأوروبية في مجال مكافحة الإرهاب. ويعد اقتراح إنشاء مكتب تحقيقات فيدرالي أوروبي مماثل لـ FBI في أوروبا لإنشاء قاعدة استخباراتية حقيقية لوقف المعابر الحدودية التي لم يتم التصدي لها بشكل أساسي، من أبرز أشكال التعاون الأمني الأوروبي لمواجهة التطرف والإرهاب.