مصر هبة النيل.. مقوله خالدة، قالها هيرودوت، منذ آلاف السنين، لمرور النهر الخالد بأراضيها لأطول مسافة من بين الدول الأخرى، ولكونها هي أيضا دولة المصب، النيل الذي يجري في أراضي تسع دول أخرى ما بين دول منبع و دول مرور و مصب.
كل هذا يؤكد ارتباط مصر القوي والوثيق بالقارة السمراء وامتداد جذورها إلى عمق القارة، كشجرة جذورها في الأرض ممتدة منذ بدء الخليقة، وفروعها في السماء مرتفعة هاماتها في أرجاء المكان.
إن مصر، بموقعها الاستراتيجي شمال شرق القارة الإفريقية ، والتي تعد من أقدم القارات في العالم، وتمتد أراضيها لتصل القارة بجارتها آسيا، وتعد حلقة الوصل بين قارات العالم القديم، جعلها بوابة إفريقيا للتجارة والثقافة، وتبادل الحضارات، والثقافات.
- تاريخ العلاقات المصرية -الإفريقية
شهدت العلاقات المصرية مع الدول الإفريقية على مر العصور، سواء دول عربية أو إفريقية، تباينا واضحا ما بين أوجه التعاون في شتي المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، وأيضا أوجه الصراع أحيانا الذي يشوبه الشد والجذب والتوتر.
ونظرا لطبيعة غالبية دول القارة المليئة بالصراعات الداخلية والانقلابات من ناحية، وحالات الفقر، والجهل، والمرض الذي خلفه الاستعمار الأوروبي لتلك الدول لفترات طويلة من ناحية أخرى، جعل أشكال العلاقة تتسم غالبية الفترات بالتوتر والفتور، وعدم الاهتمام بالسياسة الخارجية تجاه بعضها بعضا.
وبنظرة تحليلية بسيطة في تطور العلاقات المصرية -الإفريقية في العصر الحديث، بداية من حكم محمد علي وأسرته، كانت تتسم بكثرة الفتوحات في مناطق القارة قبل أن تتكون الدول والحكومات، حتى وصلت إلي عمق إفريقيا، وأصبحت حدود مصر حتى خط الاستواء جنوبا، وبلاد الحبشة شرقا، ورفع العلم المصري في تلك المناطق، واكتشاف بحيرات منابع النيل.
كانت تلك الفتوحات بهدف تأمين مجرى النيل، والسيطرة على الساحل الشرقي للقارة، والتحكم في المجري الملاحي للبحر الأحمر، وتأمين قوافل التجارة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. واستمرت العلاقة طوال فترة حكم الأسرة العلوية بتلك المنظور الأمني لحدود مصر حتى قيام ثورة يوليو ٥٢ ، وانتهاء الحكم الملكي.
-ثورة يوليو والتطلعات الإفريقية
لا ننسى أبدا دور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، في فترة حكمه من القرن الماضي، في تطوير أسس ومنهجية العلاقات المصرية-الإفريقية، وجاء بتغير منهجي كلي في طبيعة، وشكل العلاقات، وأساليب التعاون في شتى الأصعدة، ومنها:
١-دعم الحركات التحررية للقضاء على قوى الاستعمار.
٢-الدعم العسكري لبناء جيوش قوية في دول المنطقة.
٣-تأكيد إنشاء تكتلات اقتصادية قوية لمواجهة الفقر واستغلال الموارد البشرية والطبيعية الغنية بها القارة.
٤-إرساء ثقافة التعاون المبنية على التكامل وتبادل الخبرات.
٥-نشر أسس التعليم الأساسي والفني بإرسال واستقبال البعثات التعليمية والفنية، واستقبال الوقود الإفريقية للأزهر.
٦-الدبلوماسية الشعبية، ودعم الحركات النقابية والعمالية.
٧-البث الإذاعي لدول إفريقيا باللغات الإفريقية المتعددة.
وهذا بطبيعة الحال كان إحدى أدوات السياسة العامة للدولة آنذاك، وتوجهات السياسة الخارجية المصرية، التي اهتمت بإفريقيا، لكونها الامتداد الطبيعي والجغرافي لمصر من ناحية، والعمق الاستراتيجي والأمن القومي المصري من ناحية أخرى.
منحنى الانحسار في العلاقات
لقد تغيرت أوجه العلاقات المصرية –الإفريقية، في فترة السبعينيات في غالبية الجوانب، واتسمت بحاله من الفتور والتجميد، وانحسرت بصورة أو بأخرى في كونها علاقات أمن قومي فقط، مما جعل من دول أخرى، مثل إسرائيل، تحاول تكثيف تدخلها في المعترك الإفريقي لأهداف تتعلق بالشأن الداخلي لها من ناحية، والتأثير فى مجربات الأمور في صراعها مع مصر ودول المنطقة، إبان حرب أكتوبر، وما تلاها من مباحثات السلام من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة القيام بدور جديد في السياسة الدولية كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
ومن قراءة الأحداث آنذاك في ظل حكم الزعيم الراحل أنور السادات، نجد أن شكل العلاقات الدولية قد تغير بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، واختلفت توازنات القوى العالمية، وظهور لاعبين دوليين جدد على الساحة الدولية، مما أثر بطبيعة الأمر في العلاقات المصرية بدول العالم، وبالطبع منها القارة الإفريقية. وتراجعت دائرة الاهتمام بإفريقيا من وجهة نظر السياسة الخارجية المصرية، نظرا للاهتمام بالسلام في الشرق الأوسط، وتحرير الأرض. كل هذا كان له المردود السيئ على مصر وعلاقتها بجيرانها الأفارقة.
-حقبة جديدة ما بين التعاون والجمود
اكتفت فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات بتحسين العلاقات، ومحو آثار الماضي لكسب شركاء جدد على المستويين الإقليمي والجغرافي لتقوية التعاون، والحفاظ علي المصالح المشتركة في عالم كان يتخلص من الحرب الباردة، وبداية نظام أحادي القطبية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فكان الوجود المصري في إفريقيا متمثلا في الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، من خلال الآتي:
١-تأكيد أن قوة مصر تأتي من قوة جيرانها الأفارقة.
٢-المصالح المشتركة وتكوين كيانات اقتصادية قوية.
٣-إنشاء الصندوق المصري للتعاون الفني مع إفريقيا بهدف تحقيق النمو في الدول النامية الإفريقية مطلع الثمانينيات.
وسرعان ما تلاشت جميع التطلعات تلك في منتصف التسعينيات بعد أحداث محاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا، وتغيرت أساليب السياسة الخارجية المصرية مع الدول الإفريقية، التي انتهجت سياسة الجمود مع غالبية الدول الإفريقية، والتي كانت نتاج حركات التمرد، ، وسياسة الاغتيالات والإرهاب في القارة السمراء. وظل الوضع يشوبه التوتر والجمود حتى أحداث ٢٥ يناير، وما تبعها من تطورات وتوترات في الشأن الداخلي المصري، والذي بالطبع كان له الأثر في علاقتنا بدول الجوار وإفريقيا، والعالم أجمع.
ثورتان غيرتا توازنات القوى الإقليمية والدولية
اندلعت أحداث ثورة ٢٥ يناير٢٠١١، وتبعتها تغيرات جذرية في مضمون ومحتوn السياسة الخارجية المصرية تجاه غالبية الدول، لاسيما منها إفريقيا، في ظل تطورات الأحداث داخليا وإقليميا، حيث استغلت بعض الدول الوضع الراهن بمصر، وقامت بزيادة حدة التوتر ما بين مصر والدول الإفريقية. وترجم ذلك الأمر- على سبيل المثال لا الحصر- العزم في بناء سد النهضة الإثيوبي، بدعم من إسرائيل، في محاولة منها بضرب الأمن المائي المصري.
وظلت الأوضاع كما هي، بل تزداد سوءا بعد سوء، خاصة بعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم، وتولي مقاليد الحكم في البلاد لمدة عام واحد فقط، لم يقدموا فيه أي جديد في أي شيء، حتى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وبداية حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي في ٢٠١ ، الذي اتبع سياسة جديدة في علاقة مصر بأشقائها الأفارقة، ومد جذور التعاون لتحقيق أهداف التكامل المشترك . وأصبحت السياسة الخارجية المصرية تضع في أولي اهتماماتها الدائرة الإفريقية، بكل ما تحمل من تعاون وتوثيق الروابط، واتباع أساليب واستراتيجيات تبني على أسس وقواعد تتماشى مع الإحداث الجارية محليا، وإقليميا، ودوليا.