تمثل ظاهرة "الانتحاريات" فى نيجيريا تحولا كبيرا، فى ظل تصاعدها المستمر خلال السنوات الأخيرة، خاصة فى ظل اعتماد جماعة "بوكو حرام"، على النساء فى "العمليات الانتحارية، بشكل غير مسبوق فى تاريخ التنظيمات الإرهابية، حتى أصبحت تلك العمليات واحدة من أهم آليات الجماعة فى القتل والإرهاب، التى يصعب السيطرة عليها، نظرا لصعوبة توقعها أو التنبؤ بها، لاسيما وأن من يقوم بها فتيات، مثل الهجوم الانتحارى الذى نفذته ثلاث فتيات، فجرن أحزمتهن الناسفة، عند مدخل مخيم للنازحين، في مدينة "مانداراري" الواقعة على بعد 25 كلم من "مايدوغوري" عاصمة ولاية "بورنو" في شمال شرق نيجيريا، منتصف شهر أغسطس الجارى، مما أسفر عن سقوط 28 قتيلا و82 جريحا''، الأمر الذى يطرح تساؤلا مهما حول أسباب تصاعد ظاهرة الانتحاريات فى نيجيريا.
ظاهرة متصاعدة:
منذ أن بايعت جماعة "بوكو حرام" النيجيرية، تنظيم "داعش"، فى مارس 2015، بدأت تتأثر بقوة بتوجهاته، خاصة فيما يتعلق بالاعتماد على العنصر النسائى، وتفعيل دوره داخل التنظيم، على خلاف ما كان متعارف عليه فى التنظيمات الإرهابية، بما فيها تنظيم القاعدة، إضافة الى التوسع فى استخدام العمليات الانتحارية، كما يفعل "داعش" فى العراق وسوريا، الذى أصبح ذلك النوع من العمليات واحد من أهم أسلحته فى مواجهة الضغوط العسكرية وفارق القوة. وقد قامت الجماعة بالمزج بين التوجهين، حيث توسعت بشكل غير مسبوق فى استخدام النساء فى العمليات الانتحارية، مما جعلها حاليا أكثر الجماعات الإرهابية استغلالا واستخداماً للمرأة كأداة ووسيلة للقتل والموت، ليس فى نيجيريا فحسب، بل فى الدول المجاورة لها خلال الـسنوات الأخيرة.
وقد بدأت الجماعة بتوظيف النساء في العمليات الانتحارية منذ عام 2014، حيث شنت الجماعة العديد من الهجمات الانتحارية التى قام بها عدد من الفتيات، والتى كان من أشهرها، تفجير فتاه لنفسها، بولاية "جومبي" النيجيرية، فى شهر يونيو من هذا العام، وفي 15 فبراير 2015، نفذت فتاة هجوما انتحاريا، على محطة حافلات في "داماتورو"، الواقعة في شمال نيجيريا، وكانت حصيلتها سبعة قتلى وعشرات الجرحى، وفى الشهر نفسه، فجرت طفلة تبلغ من العمر 7 سنوات نفسها، بمدينة بوتيسكوم، شمال شرق نيجيريا، فقتلت سبعة أشخاص. ولم يمر ذلك العام، حتى فاق عدد الانتحاريات ضمن الجماعة أقرانهن الذكور، وهو ما تنبهت له السلطات النيجيرية، فباتت تحظر على النساء فى بعض المناطق التجول ما بين السابعة مساء والسابعة صباح. وتتركز أهداف الانتحاريات من " بوكو حرام"، غالبا على المدنيين، سواء فى الأسواق أو مخيمات اللاجئين، إضافة الى المراكز التعليمية، ومحطات انطلاق وسائل النقل، ومواقع أخرى غير حكومية.
وبحسب مركز مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة الامريكية Combating Terrorism Center at West Point، بلغ عدد الانتحاريات فى نيجيريا (250) من أصل (434) انتحاريا فجروا أنفسهم في (247) هدفا مختلفا في (238) توقيتاً متبايناً بنسبة بلغت 56% خلال الفترة من 11 أبريل 2011 إلى 30 يونيو 2017، وقد تركزت هجمات الانتحاريات بشكل رئيسى فى شمال شرق نيجيريا، وبشكل أقل فى تشاد والكاميرون، وهو ما يشير إلى أن الجماعة لها نشاط دعوى واسع فى تلك المنطقة، وهو ما مكنها من تجنيد هذه الأعداد من الفتيات للقيام بالعمليات الانتحارية، لاسيما وأن هذا النوع من العمليات يحتاج إلى قدر كبير من التشبع الفكرى.
ثانياً: أسباب تصاعد ظاهرة الانتحاريات:
يبدو أن تصاعد العمليات الانتحارية للفتيات فى بوكو حرام يعود إلى البيئة الرخوة التى تساعد الجماعة على تجنيد الفتيات للقيام بمثل هذا النوع من العمليات، مما جعله يشكل سابقة خطيرة ومستحدثة فى العمل الإرهابى، ويمكن تحديد أهم أسباب تصاعد ظاهرة الانتحاريات فى نيجيريا كما تأتى:
• استغلال الفتيات المختطفات: عندما اعتقلت السلطات النيجيرية، انتحارية تبلغ من العمر 15 عاما، قبل أن تفجر نفسها، فى 26 مارس 2016، في قرية ليماني شمالي الكاميرون، اكتشف أنها واحدة من طالبات "تشيبوك" الذين تم اختطافهن من إحدى المدارس الحكومية للفتيات، في أبريل 2014، وهذا ما عزز الشكوك بأن الجماعة تخطف الفتيات من مناطق مختلفة فى البلاد، من أجل تجنديهن فى صفوفها، ومن ثم الاعتماد على بعضهن فى القيام بعمليات انتحارية، وربما هذا ما يفسر اهتمام الجماعة بالتركيز على دعوة النساء.
•القيود الأمنية: تعد النساء والفتيات فى نيجيريا أقل عرضة للتفتيش والمتابعة من الرجال، نظرا لأن الأعراف والتقاليد تمنع رجال الجيش والشرطة من تفتيش النساء، وهو ما يسمح لهؤلاء الانتحاريات بإخفاء المتفجرات فى ملابسهن أو حقائبهن، أو على شكل أحزمة ناسفة، الأمر الذى تستغله الجماعة بشكل كبير فى تكثيف الهجمات الانتحارية.
وحيث تكمن صعوبة العملية الانتحارية، بالنسبة للفتيات، فى إخفاء المتفجرات، بغية الوصول الى الهدف، فإن الفتيات الانتحاريات يلجأن الى ابتكار وسائل جديدة لإخفاء المتفجرات، كما فى الهجوم الانتحارى الذى نفذته فتاتين في نوفمبر 2015، في سوق مايدوجوري، عاصمة ولاية بورنو، مما أسفر عن مصرع 45 شخصا، حيث كانت إحدى الفتاتين قد أخفت المتفجرات على ظهرها، متظاهرة بأنها تحمل طفلا، كما هي العادة في نيجيريا.
• سهولة التجنيد: تعد الفتيات أكثر طواعية ويسرا فى عمليات التجنيد، من خلال عمليات "غسل الأدمغة"، ليس اعتمادا على عاطفتهن وسرعة تاثرهن فحسب فيما يتعلق بالنواحى الدينية، خاصة فى تلك المرحلة العمرية التى يتم فيها تجنيدهن، وإنما أيضا عبر تلقينهم أفكار الجماعة بشكل مكثف، حتى يعتقدوا أن تلك العمليات الانتحارية هى أسمى أنواع الشهادة فى سبيل الله -حسب اعتقاد الجماعة- لاسيما وأن معظمهم محدودى التعليم والثقافة، فضلا عن عدم إدراكهم لمخاطر العمل الإرهابى، على المجتمع والدولة.
• انتشار الفقر والجهل: تسعى جماعة "بوكو حرام" إلى استغلال الأوضاع الاقتصادية، علاوة على الجهل، فى استقطاب العديد من الفتيات لصفوفها، مقابل السكن أو الطعام أو المعيشة، لاسيما فى ظل ضعف المعرفة الدينية لدى الكثير من سكان القرى والبلدات الإفريقية النائية، وانتشار الأفكار المتطرفة، خاصة وأن الجماعة تعمل على نشر مناهجها المتطرفة بالقوة بين السكان فى مناطق نفوذها، وذلك ما جعلها تمتك حواضن شعبية، أصبحت تمثل لها مصدراً للإمداد البشرى من النساء اللاتى يقمن بتنفيذ العمليات الانتحارية.
وأخيرا، وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إن تصاعد ظاهرة الانتحاريات يعد تحولا خطيرا، نظرا لأنه يمكن أن يمثل بداية لموجة قادمة من العنف المدوى، لاسيما فى ظل وجود تربة خصبة تسمح بتجنيد الفتيات للقيام بهذا النوع من العمليات، الأمر الذى بات يفرض على الجميع، خاصة الحكومة النيجيرية، العمل على إيجاد حلول غير تقليدية، لمواجهة تلك الظاهرة، قبل ان تستفحل ولا يمكن السيطرة عليها، وذلك من خلال تكثيف العمل الدعوى للنهج الوسطى المعتدل، والعمل على تأسيس برامج تأهيلية فكرية وعقائدية للنساء والفتيات ترسخ فى عقولهن أن العمليات الإرهابية والعنف المسلح الذى تتبناه التنظيمات المتطرفة لا علاقة له بالجهاد أو الشريعة الإسلامية.