عرض: أمل مختار
شهدت فرنسا موجة عنيفة من الاحتجاجات في شهر أكتوبر2010، حيث خرج الملايين في الشوارع الفرنسية في مظاهرات تعد هي الأكبر من نوعها. فقد أثار قانون إصلاح سن التقاعد ورفعه من 60 إلي 62 سنة غضب الشارع الفرنسي، وعلي وجه الخصوص الشباب الذين يعانون مشاكل البطالة، حتي إنه ولأول مرة تشهد فرنسا ظاهرة اندماج أعداد هائلة من طلاب المدارس الثانوية في الاحتجاجات. وهو أمر يعني أن السياسات اليمينية، والتي يمثلها الرئيس اليميني "ساركوزي" تقابل رفضا شديدا لدي الناخب الفرنسي، وهو أمر ينذر بكثير من القلق لساركوزي بشكل خاص ولحزب يمين الوسط بشكل عام، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 2102.
وفي كتاب "فرنسا بين عصرين .. التحولات السياسية والمجتمعية"، يقدم المؤلف دراسة لهذه التحولات من خلال تشريح دقيق وعميق لواقع الحياة السياسية والاجتماعية لفرنسا المعاصرة. ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب هو الاعتماد شبه الكامل علي المصادر الفرنسية بشكل مباشر. فعلي سبيل المثال، اعتمد المؤلف في تحليله لأداء القوي السياسية الفرنسية المختلفة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة علي تحليل الخطب السياسية لزعماء الأحزاب. وقد وصل تمكن المؤلف من اللغة الفرنسية إلي درجة الوقوف علي التأثير السلبي لبعض الكلمات التي كانت تستخدم من أحد هؤلاء المتنافسين. وقد انعكس هذا التمكن بشكل واضح علي ما احتواه الكتاب من كم كبير من المعلومات والمتابعات الدقيقة للعملية الديمقراطية في فرنسا.
ومن خلال قراءة فصول الكتاب، يتضح أن الكتاب في مجمله يقدم دراسة حالة للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت في عام 2007، والتي شهدت معركة انتخابية شديدة بين طرفي المعادلة الديمقراطية الفرنسية، وهما يمين الوسط بزعامة "ساركوزي"، واليسار بزعامة "روايال". وقد قام المؤلف في فصول الكتاب المختلفة بتحليل كافة تحركات أحزاب اليمين واليسار تجاه بعضها بعضا في فترة المعركة الانتخابية، بل كذلك أيضا داخل الحزب الواحد نفسه، مشيرا إلي أهم نقاط الضعف والقوة لكل من الطرفين. بالإضافة إلي ذلك، قدم فصلا كاملا عن الأسباب السياسية والاجتماعية الداخلية التي أدت إلي التحول من تأييد اليسار إلي تأييد اليمين في فرنسا. وقد جاءت كل فصول الكتاب متسقة مع هذا الأمر فيما عدا الفصل الأول، الذي اهتم بشكل مباشر بالتحول في السياسة الخارجية الفرنسية، وبشكل محدد نحو الولايات المتحدة الأمريكية. وقد جاء في مقدمة الكتاب لإثبات أمر وصفه المؤلف بالحقيقة الغائبة عن الكثيرين، وهي أن فرنسا المعاصرة تختلف اختلافا كبيرا عن فرنسا التي كانت في فترة الحرب الباردة. وقد استخدم المؤلف واقعة عدم تأييد فرنسا للمرشح المصري في اليونسكو كدليل إثبات علي هذا التحول، وهو ما يجعل هذا الفصل بدرجة ما غير متسق مع بقية فصول الكتاب الأخري.
وبشكل عام ومن خلال فصول الكتاب الخمسة، قام المؤلف بمناقشة عدد من القضايا المهمة بالنسبة للحياة السياسية الفرنسية، ومنها التقارب الفرنسي - الأمريكي، الذي اعتبره المؤلف تحولا قويا في السياسة الخارجية الفرنسية، جاء مصاحبا لحقبة العولمة. حيث إن فرنسا الديجولية، التي انتهجت سياسات تقاربية مع العالم العربي، لم يعد لها أي وجود علي أرض الواقع اليوم، ولاعتبارات عديدة نجدها اليوم تتجه نحو التقارب مع الولايات المتحدة وليس الاختلاف معها. ويقدم الكتاب في الفصل الأول عددا من الاعتبارات التي تحد بشكل واضح من استقلالية فرنسا في مواجهة الولايات المتحدة، يأتي علي رأسها: توحد ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، مما يدفع فرنسا إلي الحفاظ علي تحالف وثيق مع الولايات المتحدة، باعتبار أن هذا التحالف يشكل قوة توازن دولي في مواجهة برلين. بالإضافة إلي ذلك اعتبار أمني مهم تجلي بعد تحرر أوروبا الشرقية من التبعية السوفيتية، وأيضا اندلاع حروب البلقان، تمثل هذا الاعتبار في أن استقرار أوروبا مرهون بالناتو والولايات المتحدة، وليس بأي بنية دفاعية أوروبية - أوروبية.
كذلك أيضا قام المؤلف بمناقشة قضية مهمة تشهدها فرنسا المعاصرة، وهي التحول من تأييد اليسار إلي اليمين، من خلال سببين رئيسيين، الأول هو أن العولمة تؤدي إلي تراجع اليسار في فرنسا. حيث يطرح المؤلف في الفصلين الثاني والخامس حقيقة استخلصها من متابعاته وتحليلاته للواقع الفرنسي، تتمثل هذه الحقيقة في أن العولمة أدت إلي تراجع اليسار.
حيث إنه بانهيار حائط برلين عام 1989، حدث تغير جذري في الكثير من الحقائق والمعطيات الأوروبية والدولية التي سادت في فترة الحرب الباردة، فتحول الاتحاد الأوروبي إلي واقع، ذلك الاتحاد الذي تعتبره فرنسا ركيزة مجدها ونفوذها السياسي علي المستويين الأوروبي والدولي. وهكذا، غيرت العولمة ميزان القوة الذي كثيرا ما حكم علاقة الساسة برجال الأعمال، وكان هذا التغيير لصالح رجال الأعمال الذين حررتهم العولمة من خلال انتشار الشركات متعددة الجنسيات. وأصبحت هناك أصوات قوية ومؤثرة داخل فرنسا تطالب بإلغاء مركزية الدولة، وإلغاء "النموذج الاجتماعي" الذي أنشأه ديجول.
أما السبب الثاني، فيتمثل في الوضع الديموجرافي في فرنسا، حيث تمثل "الشيخوخة الديموجرافية" أزمة تعانيها المجتمعات الغربية في معظمها، وهي تعني أن معدلات الإنجاب ضعيفة للغاية، وهو ما ينعكس بصورة أساسية علي نتائج الانتخابات في فرنسا. فمن خلال فصول الكتاب المختلفة، سواء الفصل الأول أو الفصل الثاني أو الخامس، تتكرر الإشارة إلي هذه الحقيقة التي ربما تعد الأهم في سير العملية الديمقراطية في فرنسا.
الواقع في فرنسا يقول إن الشباب يؤيدون اليسار، في حين أن الشيوخ يختارون اليمين المحافظ. لكن الواقع يشير أيضا إلي أن الشباب لا يستطيعون أن يصلوا باليسار إلي الحكم، لأنهم لا يمثلون غالبية الناخبين الفرنسيين. بالإضافة إلي ذلك، فإن شيوخ فرنسا إدراكا منهم بحقيقة التوجه الشبابي نحو اليسار، أبدوا اهتماما بالغا بالمشاركة في الانتخابات الأخيرة ليضمنوا وصول المرشح اليميني للرئاسة، وبالتالي استمرار انتهاج الإليزيه سياسات يمينية تحافظ علي مكاسبهم الاقتصادية.
من ناحية أخري، تمثل الجاليات الإسلامية والعربية معضلة كبيرة بالنسبة للحياة السياسية الفرنسية، حيث إن تلك الجاليات يصل عددها إلي نحو 8 ملايين نسمة، معظمها يؤيد اليسار. ولكن المعضلة الفرنسية تتمثل في أن الجاليات العربية، علي عكس المواطنين الفرنسيين الأصليين، يقبلون وبشدة علي الإنجاب، وبذلك فهذه الجاليات، بتكوينها الديموجرافي الشاب وتوجهها اليساري، إنما تمثل تهديدا لمصالح الناخب اليميني الرأسمالي المحافظ، وهو الأمر الذي يزيد من إصرار الناخب اليميني علي المشاركة في العملية الانتخابية لكبح جماح الجالية العربية، وتقليص فرص تأثيرها في الحياة السياسية في فرنسا.
وقد أفرد الكاتب الفصل الثالث بأكمله ليقدم عرضا تفصيليا للأداء السياسي لأحزاب اليسار، مركزا بصورة واضحة علي الحزب اليساري الأكبر وهو "الحزب الاشتراكي الفرنسي" ومرشحته "سيجولين روايال". استعرض المؤلف خلال هذا الفصل التحركات الحزبية قبل وأثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وظهر من خلال هذا التحليل أن الانقسام هو سمة أحزاب اليسار. أما داخل "الحزب الاشتراكي اليساري"، فكان الانقسام الشديد هو ما يمكن أن يوصف به حال الحزب قبيل الانتخابات. حيث اتبع الحزب طريقة المناظرات السياسية بين مرشحيه، قبل عقد الانتخابات الداخلية في الحزب، لاختيار المرشح الرسمي للحزب في الانتخابات الرئاسية. وهكذا، خاضت "سيجولين روايال" الشابة نسبيا مناظرات ساخنة مع شيوخ الحزب الذين يطلق عليهم اسم "الأفيال". ومن الجدير بالذكر الإشارة إلي أن "روايال" تختلف كثيرا عن "الأفيال"، حيث إنها تريد يسارا اشتراكيا حديثا أكثر انتماء إلي حقبة العولمة، التي هي حقبة ازدهار الاستثمار ورأس المال. وبرغم فوزها في الانتخابات الداخلية للحزب الاشتراكي، فإن "الأفيال" ظلوا يهاجمونها.
وهكذا، كانت خسارة "روايال" في الانتخابات الرئاسية أمرا محتوما، وذلك لأنها اعتمدت بدرجة كبيرة علي القبول الجماهيري لها ولأفكارها، في حين خسرت التأييد السياسي لها من داخل كوادر الحزب نفسه. وقد أثبتت التجربة علي أرض الواقع في الانتخابات الرئاسية أن هذا لم يكن كافيا، حيث دخلت الانتخابات وقواعدها الحزبية متخلخلة للغاية، بالإضافة إلي أنها خسرت أصوات ناخبي الأحزاب اليسارية الأخري أيضا.
ومن جهة أخري، جاء الفصل الرابع من الكتاب ليرصد الأداء السياسي لحزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، وهو الحزب اليميني الأكبر في فرنسا والذي أسسه "جاك شيراك". كما قدم الفصل أيضا متابعة جيدة لتحركات "نيكولا ساركوزي" مرشح الحزب أثناء العملية الانتخابية. ومن هذه المتابعة، يتبين الفرق بين سياسة الحزب اليميني و الحزب الاشتراكي اليساري، حيث إنه لم يلجأ إلي المناظرات، بل أنهي التنافس بين المرشحين بالتراضي، وقدم "ساركوزي" باعتباره المرشح الوحيد. وبهذا، حصل مرشح اليمين "نيكولا ساركوزي" علي تأييد اليمين كله قبل أن يصل إلي عامة الشعب، وهذا علي عكس "روايال" التي لم تمتلك هذه الميزة داخل اليسار.
من ناحية أخري، اتبع "ساركوزي" سياسات شديدة الذكاء والتنظيم في حملته الانتخابية، حيث لجأ إلي احتواء منافسيه. فهو من جهة، سعي إلي احتواء صعود مرشحة اليسار "روايال". ومن جهة أخري، قام باحتواء مرشح اليمين المتطرف "جان ماري لوبان" عندما تبني قضية الهجرة ومن ثم جذب ناخبيه المتشددين. بالإضافة إلي ذلك، استطاع "ساركوزي" احتواء الرئيس "شيراك" بعد أن كان يمثل أحد أهم العوائق أمامه، في حال إذا ما أراد "شيراك" إعادة ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة، واستطاع "ساركوزي " أن ينتزع من "شيراك" تأييدا علنيا أمام الرأي العام الفرنسي. حيث إن "نيكولا ساركوزي" بدا لكل من درس تحركاته علي الساحة السياسية الفرنسية يمينيا محافظا يتمسك بآرائه، مع قدرته في الوقت نفسه علي تعديل استراتيجيته باستثمار أي متغير لصالحه، لذلك كانت حملته الانتخابية تجمع بين الهجوم والاستمالة.
بشكل عام، يمكن القول إن هناك العديد من التحولات السياسية والمجتمعية التي تشهدها فرنسا اليوم، والتي ستلعب دورا بارزا في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومن المهم الإشارة إلي أن الوضع الديموجرافي الفرنسي لا يعني بالضرورة ضمانا كافيا لاستمرار اليمين في الفوز بمنصب الرئاسة في فرنسا. ومن جهة أخري، فإن موجة الإضرابات والاحتجاجات العنيفة التي عصفت بفرنسا في أواخر عام 2010 ليست ضمانا كافيا لفوز اليسار في تلك الانتخابات. ولكن علي أي حال، يمكن اعتبارها دليلا كافيا علي أن اليمين سيواجه انتخابات شديدة الصعوبة في 2012، خاصة بعد أن أعلنت "سيجولين روايال" رسميا في 30 نوفمبر 2010 عن نيتها إعادة الترشح مرة أخري للانتخابات الرئاسية القادمة، وأنها بدأت بالفعل التجهيز لحملتها الانتخابية القادمة. كذلك أيضا من الممكن أن تأتي الضربة لحزب "ساركوزي" من اليمين المتطرف بزعامة "لوبان"، الذي يستعد بقوة كبيرة للانتخابات الرئاسية القادمة.