أثارت المبادرات السعودية الهادفة لإعادة إدماج العراق في الحاضنة العربية تساؤلات حول مدى أهميتها ودلالاتها في إبعاد هذا البلد عن النفوذ الإيراني في الآونة الأخيرة في ضوء زيارة العديد من الشخصيات العراقية ذات التوجهات المتباينة إلى الرياض.
فقد زار رئيس وزراء العراقي حيدر العبادي الرياض في 19 يونيو الماضي، بناءً على دعوة كانت قد وجهت إليه سابقا بهذا الخصوص. وبعد أقل من شهر، التقى وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي في جدة كل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ووزير الداخلية الجديد الأمير عبد العزيز بن سعود، تبع ذلك زيارة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى الرياض قبل نهاية شهر يوليو بناء على دعوة من المسئولين السعوديين.
وحظيت دعوة السعودية لمقتدى صدر بالترقب من جانب العديد من المحللين، خاصة وأنها جاءت بعد سلسلة من المواقف المتشددة له تجاه السعودية، من بينها مطالبته بإغلاق السفارة السعودية في بغداد احتجاجا على إعدام الزعيم الشيعي نمر النمر، ومهاجمته تدخل قوات ردع الجزيرة إلى البحرين.
دلالات أساسية
تشير الخطوات السعودية إزاء العراق، فضلا عن تجاوب بغداد، خاصة من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، إلى جملة من الدلالات الأساسية من أبرزها:
(*) تفاهمات ثنائية،حيث يؤشر التغير في السياسة العراقية تجاه الرياض إلى تفاهمات ثنائية جديدة، تسعى من خلالها السعودية إلى اجتذاب الأحزاب الشيعية في العراق، وإنهاء فترة مقاطعتها، وكذلك الحصول على موقع مؤثر تخلخل به النفوذ الإيراني في الداخل العراقي. وبالمقابل، فإن القادة العراقيين الشيعة يبحثون عن بدائل أخرى للاحتكار الإيراني، وهو ما ظهر في توافق رؤى الجانبين، وتم بلورته في مفهوم وحدة الدولة الوطنية ونبذ التقاسم الطائفي، وهو ما بدا في تصريحات ثامر السبهان لوزير الدولة لشئون الخليج العربي. إذ أكد على ضرورة التفرقة بين المذهب الشيعي الأصيل وبين مذهب الخميني المتطرف الجديد، حيث قال: "التشدد السني والتشدد الشيعي لا يبنيان الأوطان والمجتمعات، لغة الاعتدال والتسامح والحوار هي ما يجب أن تسود لتحقيق المصالح العليا".
(*) توجهات سعودية جديدة: حيث تتسم التوجهات الجديدة لولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ظل التطورات الجارية بالمنطقة بمحاولات الفصل بين الشيعة العرب والشيعة المحسوبين على إيران ضمن سياسة جديدة تجاه العراق جري التمهيد لها من خلال التواصل مع المسئولين الأساسيين في العراق.
(*)موازنة النفوذ الإيراني، وتوحيد الجبهة السنية في العراق، وفتح قنوات تواصل مع الشيعة غير المحسوبين على إيران. وذلك في ظل جهد إقليمي مشترك شاركت فيه دول أخرى كان من بينها الأردن، فضلا عن تفاهمات دولية برعاية أمريكية لتقويض المحور الإيراني بالمنطقة الذي يمتد من العراق إلى سوريا ووصولا إلى اليمن. وربما استقبال السعودية للقادة العراقيين يبعث برسالة لطهران بأنها قادرة على النزول إلى ملعبها الخلفي (العراق) ومواجهتها.
في الوقت نفسه، فإن رئيس الوزراء حيدر العبادي يدرك على ما يبدو أن التمدد الإيراني في الداخل العراقي يضعف سيطرته، ويجعل بلده تابعا لطهران في ظل خريطة التشيع الإيراني 2025 .
(*) الأجندة العراقية، فيبدو أن ثمة رغبة للزعيم الشيعى "مقتدى الصدر في خلافة السيستانى زعيم الحوزة العلمية في النجف، وهو ما دفعه إلى إعادة النظر في خارطة تحالفاته الإقليمية، بما يُفسر تأرجح مواقفه وتوجهاته ما بين طهران والعواصم العربية. ويظهر ذلك بعدد من الشواهد الداعمة لتلبيته للدعوة السعودية، والتي ترى بدورها "الصدر" بمثابة بوابة المرور المتوازنة لشيعة العراق. ذلك أن الصدر تتراوح مواقفه بين دعم الإسلام السياسي الداعم لفكرة أسلمة الدولة، والشعارات المدنية التي تذهب إلى فصل الدين عن الدولة، وإن كان لم يترجم تلك الشعارات على أرض الواقع .
كما أن الصدر قد يعيد النظر في خارطة التحالفات الإقليمية الداعمة ، بما دفعه لتصدير ورقة القومية والمرجعية العربية والمدنية في أهدافه وميوله السياسية، وهو ما تلاقى مع الخطاب السعودي الجديد الذي يسعى إلى العودة للمشهد العراقي مجددًا.
أيضا، فإن الصدر يسعى للبحث عن حاضنة عربية بديلة يستطيع من خلالها ترجمة أهدافه ومخططاته داخل العراق خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية القادمة، ومن ثم، وربما تكون البوابة السعودية الأقرب خاصة في ظل سعيها لتقويض أذرع طهران العسكرية والسياسية في الداخل العراقي.
(*) توقيت التقارب،حيث يأتي التقارب السعودي العراقي في ظل مشهد إقليمي مضطرب تتداخل ملفاته ما بين تبعات الأزمة الخليجية - القطرية، فضلا عن التمرد الحوثي في اليمن، ملف التسوية السورية، وكذلك مرحلة "عراق ما بعد داعش". ويلاحظ أن الصدر يسعى بعد الانتهاء من مرحلة داعش إلى حل قوات الحشد الشعبي ودمجها بالقوات الرسمية، وهو عكس ما تنتهجه إيران في العراق من تقوية شوكة الحشد الشعبي على حساب القوات التابعة للحكومة لتنفيذها أهدافها التوسعية في المنطقة.
يظل بالأخير أن التقارب السعودي العراقي يمثل بادرة لمواجهة النفوذ الإيراني وإن كان يحتاج إلى مزيد من التعمق، خاصة وأن الحديث عن توديع التيار الصدري لكامل العلاقة مع طهران والاندماج بالتوجه السعودي ربما يحتاج إلى قدر من التريث في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي وصعوبة التنبؤ بتحركات فواعله.