على الرغم من تجديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العمل بالاتفاق النووي الايراني، متراجعا بذلك عن أحد أبرز وعوده الانتخابية بتمزيقه، فإن الاتفاق، الذي تم توقيعه مع بين طهران والقوى الكبرى قبل عامين، لا يزال يثير العديد من الانقسامات والجدل داخل الإدارة الأمريكية.
إلا أنه بالمقابل، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية جديدة أخرى في 19 يوليو الجاري على خلفية برنامج طهران للصواريخ الباليستية ولإسهامها في التوترات الإقليمية، ودعم تنظيمات إرهابية، وهو ما دفع إيران للتنديد بهذه العقوبات.
وما بين تجديد الاتفاق النووي، وفرض عقوبات اقتصادية جديدة على طهران، تطرح تساؤلات حول طبيعة توازنات القوى المؤسسية في الداخل الأمريكى، فضلا عن انعكاساته على إدارة ملفات الإقليم المتشابكة والمتداخلة مع فواعل الداخل والخارج.
إنقسام مؤسسي:
شهد ملف "الاتفاق النووى الإيرانى" انقساما واضحا ما بين مسئولى إدارة ترامب. فبينما يرى اتجاه ضرورة التزام الرئيس الأمريكي بتعهداته الانتخابية بنسف هذا الاتفاق، الذي يراه "الأسوأ" في تاريخ أمريكا، يدعو اتجاه آخر إلى ضرورة الإبقاء عليه احتراما لدولة القانون والمؤسسات، والتي كان الاتفاق تحت رعايتها وبموافقتها في عهد باراك أوباما، فضلاً عن تجنب الصدام مع الدول الغربية الموقعة عليه، خاصة بعدما أعلنت عدم نيتها إعادة النظر في بنود الاتفاق مرة أخرى.
وبرغم هذا الانقسام، فإن واشنطن أبقت على الاتفاق النووى مع إيران لمدة 90 يوما قادمة، وسوغت ذلك قائلة: "استنادًا إلى المعلومات المتوافرة لدى الولايات المتحدة، فإن إدارة ترامب ترى أن طهران تلتزم بالشروط التي ينص عليها الاتفاق النووي، مما يعني عدم فرض أي عقوبات أمريكية عليها بسبب برنامجها".
الجدير بالذكر أن الانقسام ما بين ترامب ومؤسسات الدولة ليس وليد اللحظة. فمنذ اليوم الأول لتنصيبه، باتت ملامح الصدام تتكشف في ظل ما ينتهجه ترامب من أفكار وسياسات ربما تتعارض مع توجهات الخارجية الأمريكية وفق تقديراتها السياسية والأمنية، والتى منها:
- الصدام الأول، مع القضاء في أزمتين متتاليتين، الأولى في 3 فبراير2017، والثانية والأخيرة في التاسع من الشهر نفسه، وذلك حين رفض القضاء القرار الذي أصدره ترامب في 27 يناير 2017 بشأن حظر دخول مواطني عدد من الدول الشرق أوسطية للولايات المتحدة بدعوى حماية أمنها من الإرهاب. وعلى الرغم حكم المحكمة العليا أخيرا بتطبيق حظر جزئي على مواطني هذه الدول، فإن ملامح الصدام بين الرئيس والقضاء لم تنته بعد.
- الصدام الثانى، وتمثل فى شبه الاتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين على أن بعض ممارسات ترامب قد تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، مما انعكس في رد فعل الحزبين على مناقشة الرئيس بعض القضايا الأمنية، والمتعلقة بتجربة الصاروخ الباليستي الذي أطلقته كوريا الشمالية في 13 فبراير 2017، خلال تناوله العشاء مع رئيس الوزراء الياباني شيزو آبي في منتجع "ماو آلا غو".
- الصدام الثالث، وتمثل فى تباين المُدركات تجاه بعض الملفات الإقليمية والدولية، كعلاقة الرئيس ترامب مع روسيا، وانتقاداته الحادة لبعض الدول الأوروبية، وحلف الناتو، والموقفين من العراق والأزمة الأوكرانية، وغير ذلك في كثير من القضايا.
رهان العقوبات:
تشكل الأداة العقابية الأمريكية تاريخا ممتدا في علاقاتها مع طهران منذ أزمة الرهائن الأمريكيين الذين تم احتجازهم في السفارة الأمريكية في طهران في الفترة من عام 1979 و1981.إذ اعتمدت الولايات المتحدة على تلك العقوبات على مدى أكثر من 40 عاما كوسيلة لمعاقبة طهران وردعها عن طموحاتها الإقليمية بالشرق الأوسط.
إلا أن توقيع الاتفاق النووي، في يوليو 2015، ثم تطبيقه في يناير 2016، فرض على الأطراف رفع جميع العقوبات ذات الصلة ببرنامج إيران النووي أو إلغاءها، مما أنعش صادرات النفط الإيرانية، وأعاد إحياء علاقات طهران مع النظام المالي العالمي، فضلا عن بناء العلاقات الاستثمارية مع الشركاء التقليديين في أوروبا وآسيا.
على أن التمدد الإيراني في الصراعات خاصة في سوريا، فضلا عن دعم حزب الله اللبناني، وجماعة الحوثيين في اليمن، ظل محط رفض من الولايات المتحدة لتأثيره فى مصالحها، إذ ترى واشنطن أن سلوك إيران الإقليمي يسهم في تأجيج التوترات.
من هنا، سعت إدارة ترامب إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة في 19 يوليو 2017 على إيران بسبب برنامجها للصواريخ الباليستية ولإسهامها في تأجيج الصراعات بالمنطقة، ودعم منظمات إرهابية. ويذكر أن مجلس الأمن أصدر قرارا في 14 يوليو 2015 يحظر على إيران تنفيذ تجارب للصواريخ الباليستية لمدة 8 سنوات.
دلالات أساسية:
يدلل سعي إدارة ترامب لفرض مزيد من العقوبات الجديدة على إيران، والالتزام في الوقت نفسه بالاتفاق النووي المبرم في عام 2015 ، الذي يشهد انقساما حوله بالإدارة الأمريكية، على عدة أمور أساسية، هي:
أولا: الرغبة الأمريكية فى استعادة دورها، والانخراط بأحداث المنطقة، ولكن ينقصها غياب أجندة سياسية متفق عليها، فى ظل الانقسام الواضح ما بين مسئولى إدارة ترامب على طريقة التناول بملفات الإقليم. في المقابل، تمتلك طهران الأجندة الواضحة، التى تعرف بـ الاستراتيجية الإيرانية العشرينية "إيران: 2025". وهي تعد "أهم وثيقة قومية وطنية بعد الدستور الإيراني" ، تنص على الخصوصية الدولية لطهران، وسعيها للتحول من قوة صاعدة لقوة دولية، بما ينعكس على إقليم 2025 ، إذ استغلت انكفاء أوباما لتعزيز خريطتها في كل من العراق، وسوريا، واليمن.
كما استفادت طهران من تفادي الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، والغرب عامة، بتبنيها ما بات يعرف بنهج الحروب بالوكالة في المنطقة، من خلال إنشاء وتسليح ميليشيات، كميلشيات الحشد الشعبى في العراق.
ثانيا: طبيعة المرحلة السياسية التي يشهدها الشرق الأوسط بعد الثورات العربية في عام 2011 ، والخلل البنيوي الذي أصاب ثوابت الدولة الوطنية، وتنامى نفوذ التنظيمات الإرهابية "داعش"، بما أحدث خللا في موازين القوى الإقليمية والدولية.
ثالثا: التجاذبات السياسية بفواعل النسق الدولى حول تسوية أزمات الإقليم، فالأولوية لدى واشنطن في سوريا هي إزالة "داعش"، وذلك بعد الانتهاء من معركة تحرير الموص، فضلا عن محاصرة التمدد الإيرانى بسوريا لمصلحة الأسد، وذلك بالتنسيق مع الشريك الروسى.
يظل في الأخير أن لجوء إدارة ترامب إلى التوازن بين الالتزام بالاتفاق النووي، وفرض عقوبات جديدة، يعني محاولة بناء معادلة متوازنة نسبيا بين حصار التمدد الإيراني في صراعات المنطقة، الذي يهدد حلفاء الولايات المتحدة، خاصة سوريا واليمن، وفي الوقت نفسه إبقاء الباب مع طهران عبر تجديد الاتفاق النووي.