من المجلة - الافتتاحية

إقليم بلا نظام:|البحث عن مفاتيح لفهم مستقبل منطقة الشرق الأوسط

إقليم-بلا-نظام-داخلي
طباعة

إن أحدا لا يعرف ماذا سيحدث بالضبط هذه المرة، فقد تفجرت موجة من الثورات العنيفة في المنطقة العربية، أدت -رغم أن نتائجها النهائية لم تتضح بعد- إلي إسقاط عناصر رئيسية في النظام الإقليمي الحالي، يتضمن ذلك قيادات تاريخية، ونظما سياسية، ومحاور إقليمية. لكن يبدو أن الإقليم سيتفكك، وسيتحول الشرق الأوسط إلي منطقة بدون نظام إقليمي. لكن مالذي يعنيه ذلك بالضبط?

البداية، أن هناك مشكلة مزمنة أصلا في فهم المنطقة، إلا أنها وصلت إلي حد أن أي محاولة سريعة للبحث في "جوجول" عن الكتابات التي تقدم تحليلا للكيفية التي يمكن بها "فهم الشرق الأوسط" Understanding the Middle East، يمكن أن تؤدي إلي اكتشاف رقم مذهل، وهو 90 مليون عنوان تقريبا (مقابل 30 مليونا لمنطقة جنوب شرق آسيا مثلا)، تتضمن كلماتها أو نصوصها مفردات البحث الثلاث. وما يعنيه ذلك هو أن هناك محاولات مستمرة، وبكثافة لا يمكن تخيلها، لفهم ما يجري في المنطقة التي نعيش فيها، وأن أحدا لم يتمكن من تقديم مفاتيح مقنعة لفهمها علي مدي زمني معقول، وإلا تقلص سيل الاستفهامات حول وجود صعوبة في التحليل، حتي لو كانت الكتابات ذات العلاقة ضمن الرقم السابق لا تتجاوز 1%. ويتذكر كثيرون عبارة مألوفة كانت تطلق -ولا يتم ذلك بحسن نية في أحوال كثيرة- في وجه من يبدي اندهاشا لوقوع حدث ما في الإقليم، هي "استيقظ، أنت في الشرق الأوسط".

إن الفكرة السائدة، إذن، هي أن الشرق الأوسط كان دائما منطقة غير مستقرة، تطرح حولها أسئلة بأكثر مما يقدم بشأنها من إجابات. وكلما بدا أنها استقرت نسبيا، بصورة يمكن معها تصور ملامح نظام ما يتضمن فاعلين وتفاعلات وقواعد وملامح "بيئة استراتيجية" قابلة للاستقرار علي أسس يوجد تيار رئيسي بشأنها، يقع انفجار ما بأشكال غير متوقعة، لتبدأ العملية من جديد. والقضية هذه المرة أن الانفجار الكبير لم يقع بفعل حرب إقليمية كحالة 1967، أو حركة غير تقليدية خارج الصندوق كحالة 1977، أو حادثة دولية كبري كحالة 2001، أو غزو خارجي كحالة 2003، أو حتي ثورة منفصلة كما جري عام 1979، وإنما انفجرت المنطقة من الداخل بفعل سلسلة متتالية من الثورات العنيفة ضد نظم سياسية، أهمها علي الإطلاق حالة مصر، بما أدي إلي تصدع ست وحدات إقليمية، مع خلق بيئة استراتيجية، لم يعد من الممكن معها، بالنسبة لصانع القرار أو رجل الشارع، أن يتوقع ما سيجري مستقبلا. والتوقع بالمناسبة هو جوهر فكرة النظام.

إن ما نشهده في الوقت الحالي هو  -وفقا لتعبيرات داخلية-  حالة من "الإنفلات الإقليمي". ومنذ فترة طويلة، لم تعد هناك إمكانية لتصور وجود "ضابط" إقليمي أو دولي يمكن أن يحدد إيقاع الإقليم في تحالفاته وصراعاته، فتجربة الدولة المحورية في الستينيات غير قابلة للتكرار، والولايات المتحدة تواجه مشكلة علي أربع جبهات. ويوضح الملف الرئيسي في هذا العدد أن أدوار ما قبل 2011 لإيران وتركيا تنحسر. كما أن الاستراتيجيات الخاصة بتشكيل محاور إقليمية، علي غرار محور مصر وسوريا والسعودية القديم، أو محاور الراديكاليين والمعتدلين التي انهارت، إما أنها لا تزال مبكرة أو تجريبية. وبالتالي، فإن كل دولة تتصرف الآن بمفردها، استنادا إلي فكرة عامة لمصالح قومية عليا تواجه صعوبة في تحديدها، فيما يتجاوز هدف البقاء. وهو بالضبط ما سمي في البدايات الفلسفية للاتجاه الواقعي في تحليل العلاقات الدولية "حالة الطبيعة" التي ارتبطت بتعبير شهير لتوماس هوبز هو " الوحش" Leviathan"، الذي يعبر عن حالة تتسم بالاضطرابات والمخاوف، وحرب الجميع ضد الجميع من أجل البقاء، وفيها لا تملك دولة أن تكون أخلاقية أو مثالية أو حسنة النية، ولو مؤقتا، حتي لا تفاجأ علي الأقل.

المشكلة الأكثر تعقيدا هي أنه بينما تحاول كل دولة في المنطقة أن تحافظ علي بقائها، أو تكيف نفسها، لكيلا تتعرض لمشكلة بقاء، أو أن تمنع امتداد تأثيرات الانفجار الإقليمي إليها، في حالة ما إذا كانت تتمتع بحصانة معقولة أم لا، تشهد البيئة الاستراتيجية في الإقليم تحولات حادة تطرح أسئلة جذرية حول هيكل أو علاقات أو حتي هوية الإقليم القادم. إذ بدأت تظهر ملامح أولية لقوي إقليمية Forces of Region  تشبه قوي الطبيعة، لا يوجد يقين حول تأثيراتها التالية، وقد تؤدي إلي تحولات مهمة في القوة الإقليمية، أو تطرح سيناريوهات بعيدة عن التصورات المعتادة. وقد تم التطرق إلي مفاهيم تتعلق بكل ذلك في العدد وملاحقه، لكن من بينها -كمجرد أمثلة- ما يلي:

1- إن المجتمعات أصبحت أقوي من الدول، فهناك تصنيف تقليدي لعلاقات الدول والمجتمعات في المنطقة العربية، يقرر أنه (كانت) هناك دول أقوي من المجتمعات، كحالة مصر وسوريا، ومجتمعات أقوي من الدول، كحالة لبنان واليمن "في الشمال"، ودول تتعادل فيها قوة المجتمع والدولة، كالجزائر والكويت. والآن، بدأت المعادلة تسير في اتجاه واحد، فقد بدأت قوة المجتمعات في التصاعد لدرجة تكاد تفتك بالدولة، التي أصبحت تواجه صعوبات في القيام بمهامها الأساسية، علي الأقل في حفظ الأمن. وقد حدث ذلك مبكرا في العراق، هذا إذا لم تنضبط المعادلة في وقت مناسب، بحيث لا تتحول الدولة إلي "وحدات فاشلة" أو منقسمة، تثير متاعب مزمنة للدول المجاورة لها والبعيدة عنها.

يتمثل الانعكاس الرئيسي لذلك داخليا في حالة عدم استقرار سياسي طويلة المدي، فلن تكون هناك قيادات قوية أو أحزاب مسيطرة، وقد تجرب تلك الدول حالات الفراغ السياسي، يتضمن ذلك عدم وجود رئيس أو حكومة لفترات طويلة. كما أن الجماهير ستظل ضاغطة من الشارع علي الجميع، بشرعيتها الخاصة، لفترات ممتدة. والأهم أن "الفاعلين من غير الدولة" سيصبحون جزءا من معادلة الحكم، وفق قواعد مختلفة عما شكلوه من قبل. وفي ظل انتشار مراكز القوي، وتوازنات الضعف، وعمليات "التسييس" داخل الدولة، لن تتصرف الدول كما كانت تفعل، أو حتي كما تتصور النخب الضيقة، التي تواجه الحقائق، أنها يجب أن تفعل، فكل القيادات تشعر بعدم أمن.

إن هذا الوضع سوف ينعكس علي السياسات الخارجية، والسياسات الدفاعية، وسياسات الأمن القومي لدول المنطقة في الفترة التالية، وبالتالي ستصبح معظم السياسات "داخلية"، وستسيطر حالة من التجريب علي الجميع، مما سيؤدي إلي اضطراب العلاقات الإقليمية، واتساع المسافات بين الدول، وسيطرة الهواجس علي الجميع، مالم تبدأ عمليات محددة لإيجاد " قنوات خاصة"، أو مسارات موازية في إدارة العلاقات الإقليمية. وحتي في تلك الحالة، ستكون هناك حالة حرج وعدم ثقة في التعهدات، واستعداد للتراجع، خاصة في "عصر الويكيليكس". وعلي ذلك، لن تكون هناك سياسات خارجية مستقرة لفترة.

2- إن التيارات الدينية ستصبح جزءا من العلاقات الإقليمية، وقد لا يبدو أن هناك جديدا في تلك المسألة. فالحديث عن تأثير العامل الديني في العلاقات الدولية أصبح كالمسلمات، حتي بالنسبة لديمقراطيات ليبرالية عتيدة، وتصاعدت قوة المذهبية والطائفية في الإقليم، خلال الفترة الماضية. لكن الوضح الحالي يحمل ملامح مختلفة، فقد أصبحت التيارات الدينية قطاعا معترفا به داخل هياكل الدول، بما في ذلك الجماعات التي كانت تعد "متطرفة" أو عنيفة، فلم تعد تمثل فاعلا غير حكومي داخليا، أو معارضة دينية محظورة أو غير شرعية، وإنما فاعل ضمن هيكل السلطة، بتوافق عام، وبمستوي من القوة، يثير أطروحات خاصة بهوية الدول في بعض الحالات، فأكثر جدالات مصر، مثلا، جدية هو ذلك الجدل حول مدنية الدولة.

إن النماذج البسيطة يمكن أن تعمل هنا في تحديد بعض الملامح العامة للمستقبل. فهناك تصور بأنه إذا سارت تلك الدول في اتجاه "سيناريو أسوأ حالة"، فستتحول إلي نموذج باكستان. وإذا اتجهت ناحية "سيناريو أفضل حالة"، فستقترب من نموذج تركيا. وفي الحالتين، هناك معادلة لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة، تميل بشدة لصالح دولة الأمر الواقع "الدينية" في الحالة الأولي، وتميل بشدة لصالح الدولة المدنية في الحالة الأخري. ويمكن تصور حجم المشكلات التي تحيط بالسياسة الخارجية الباكستانية مع الجوار المباشر، والأطراف الدولية، وطبيعة السياسات الخارجية المختلفة الصادرة عن تركيا. وبالطبع، فإن النماذج لا تحدث، لكن هناك نقطة علي الخط الواصل بين النموذجين، سوف تتبلور، وفقا لطبيعة كل دولة.

إن الانعكاس المحتمل لهذا التحول علي المستوي الإقليمي يتمثل في " تديين" محتمل بمستوي ما للسياسات الخارجية. وقد ظهرت تحليلات مختلفة في الماضي القريب تشير إلي "أسلمة" الصراع العربي - الإسرائيلي، مع مظاهر احتكاكات إقليمية محدودة مرتبطة بتأثير العامل الديني. لكن التحليلات التي توغل أكثر في المستقبل تشير إلي احتمالات ظهور تحالفات إقليمية علي أسس تتعلق بالدين، أو مؤسسات إقليمية تستند إلي العامل الديني، أو أن يظهر مشروع إقليمي إسلامي علي حساب المشروع القومي العربي. وهنا، يمكن رصد عوامل مختلفة تؤدي إلي تقييد مثل تلك السيناريوهات، منها تكوين جيل الثورات العربية، وتأثيرات وجود "العالم" خارج الإقليم، وبرجماتية التيارات الدينية ذاتها حاليا، إلا أن العامل الديني سيؤدي إلي تأثيرات إقليمية.

3- إن مشكلات الأمن غير التقليدي ستؤثر بشدة في حالة الإقليم، فالنظم الإقليمية قد تستند إلي مستويات مختلفة من التنسيق السياسي، أو التعاون الاقتصادي، أو التبادل الفني، لكنها تصبح نظما إقليمية حقيقية، عندما تقترب من المساحة الأمنية، التي ترتبط بمصالح صلبة لا يوجد عادة استعداد للمسايرة بشأنها. ولم يكن النظام العربي المنهار فعالا علي الإطلاق في التعامل مع مشكلاته الأمنية، بما فيها مشكلات الأمن الداخلي، التي كانت النظم السياسية تبدو جادة في التعامل معها، ويقينا مشكلات الأمن الإقليمي. فهناك توازنات عسكرية مختلة، وتدخلات في شئون الدول، وموازين نووية مقلقة، وليس لدي أحد أية أفكار محددة حول الشكل المحتمل لترتيبات الأمن الإقليمي، إذا قدر لنظام ما أن يتشكل مرة أخري. لكن الفكرة المتصورة أن ذلك لن يحدث إلا بعد أن تجرب الدول كل الوسائل الأخري، بما قد يؤدي لصدامات إقليمية عنيفة.

لكن هناك بعض المداخل التي تشير إلي إمكانية حدوث تنسيق إقليمي من نوع ما في مواجهة مشكلات غير تقليدية، ترتبط بمفهومي الأمن الإنساني والأمن غير التقليدي. فالصراعات المسلحة وعدم الاستقرار الداخلي هما مصدر التهديد الأول للأمن الإنساني المتعلق بأمن الشعوب، في مواجهة مشكلات الفقر، والأمان، والتعليم، والصحة. وهنا ببساطة، فإن أي دولة رئيسية في المنطقة لن تحتمل ثمن حدوث انهيار كبير في الأوضاع الداخلية لدولة مجاورة أو قريبة، حتي لو لم تكن العلاقات السياسية بينهما يمكن أن تسير وفقما تتصوره لها. ومن هنا، يأتي الارتباك في تعامل دول رئيسية مع أوضاع دول تتعرض لمشكلات داخلية، فقد يتم فصل مستويات التفاعل عن بعضها بعضا.

بالإضافة لذلك، فإن ظهور مشكلات أمن غير تقليدية ليست نابعة من دول، وليست ذات مضامين عسكرية نظامية، مع كونها عابرة للحدود، يمكن أن يؤدي إلي حالة من التعاون الاضطراري بين دول المنطقة، حتي تلك التي توجد خلافات عامة بينها. ووفقا لمؤتمر تم عرض أعماله في العدد، فإن هذا العصر يكاد يكون -إقليميا- عصرا لتهديات الأمن غير التقليدية، التي تتعلق بالكوارث الطبيعية، أو الأمراض الوبائية، أو التحركات البشرية غير المحكومة، أو أمن الحدود، أو الإجرام المنظم، أو العنف العابر للحدود، أو الأزمات المالية، أو أمن المعلومات. وفي حالات التفاعل إقليميا حول مصادر التهديد المشتركة من تلك النوعية، قد تظهر ترتيبات أمن إقليمية متعددة الأطراف ذات طابع وظيفي بأسرع مما يتصور، لكنها لن تكون كافية لتشكيل نظام إقليمي.

في هذا الإطار، تظل مشكلة مثل تلك الملامح المتصاعدة لأوضاع البيئة الاستراتيجية في الإقليم هي أنها تدفع في أكثر من اتجاه، تتناقض أحيانا مع بعضها بعضا، وهذه التناقضات ذاتها هي التي ستشكل حالة الإقليم، كما يظهر في الطريقة التي تدير بها الدول علاقاتها الثنائية الخارجية حاليا. لكن هناك-  مع ذلك  -مفاتيح لفهم ما قد يحدث في المنطقة، أهمها سلوك اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، والقرارات التي سوف تتخذ في العواصم المؤثرة، بشأن إدارة كل منها لعلاقته مع الأطراف الأخري، وهي: السعودية، وإيران، وتركيا، ومصر، وإسرائيل، ومعها دول أخري مثل: قطر، والإمارات، والجزائر، مع الإقرار بأن المنطقة العربية تتحول شيئا فشيئا إلي أن تصبح "شرق أوسط". فلم تعد الحدود الخارجية للمنطقة العربية محددة أو محصنة بدرجة تتيح الحديث بمصداقية، عندما يتعلق الأمر بفكرة النظام الإقليمي، عن نظام إقليمي قومي، في المدي القصير علي الأقل. وهنا، يمكن الإشارة إلي عدة نقاط:

1- إن شبكة العلاقات الإقليمية القادمة لن تكون مركزية علي الإطلاق، فهناك تفاوتات شديدة في قوة كل طرف، والتي تتيح له التأثير في سلوك الآخرين، وبالتالي ستكون هناك مراكز قوي إقليمية، لدي كل منها واحد أو بعض مما يسمي "عناصر قوة الدولة" التي تتعلق ببساطة بالقدرات المالية، أو القوة العسكرية، أو الخبرات المتقدمة، أو التأثير السياسي. ولا توجد دولة في المنطقة تمتلك أكثر من عنصرين معا من تلك العناصر، وبالتالي لن تكون هناك قيادة إقليمية.

2- إن السمة الرئيسية التي ستحكم علاقات الفاعلين الرئيسيين في المدي المباشر هي "التنافس"، فلن يقدم أحدها في تلك البيئة علي إثارة صراعات لا يمكن السيطرة عليها، ولن يتم الإقدام علي طرح أفكار تعاونية جادة، قبل أن يجرب كل منها تأثيره المستقل، بإصرار. لكن قد يتم التفاهم علي مجموعة محدودة من قواعد التعامل الإقليمية التي تقوم علي احتواء التدهور، ومنع التصادم، أو التعايش السلمي، فلدينا حرب باردة إقليمية في الطريق.

لكن الفكرة المكملة لذلك، والتي ترتبط عادة باستراتيجيات إدارة العلاقات الدولية خلال الحروب الباردة، هي "المحاور الإقليمية". فقد يتم السعي، خلال المرحلة القادمة، إلي تشكيل محاور إقليمية، متحركة، لتشهد المنطقة فترة مماثلة لما يسمي في التاريخ الدبلوماسي "توازن القوي" خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، الأولي والثانية، أو ما شهدته المنطقة ذاتها خلال الخمسينيات من القرن العشرين، والتي تشكلت خلالها محاور شهيرة، مثل حلف الشرق الأوسط ،  وحلف بغداد، والحلف المركزي (الذي كان يتكون من العراق وتركيا وباكستان وبريطانيا)، أو ما جري فقط منذ سنوات قليلة بتشكل محور الراديكاليين والمعتدلين. وقد بدأت أفكار المحاور في الظهور بالفعل فيما يبدو وكأنه استعداد مبكر للصراع علي الشرق الأوسط.

تبقي حالة مصر كمفتاح أخير شديد الأهمية لفهم ما يجري في الإقليم، لكنها تثير إشكاليات شديدة التعقيد، وربما الحساسية أيضا. فما بقي من نظريات جمال حمدان يطرح ثنائية صعبة، هي إما أن تصبح إمبراطورية (وبمنطق المرحلة الحالية فاعل رئيسي مؤثر يكاد يكون فوق إقليمي)، أو مستعمرة (أي هدفا للتأثر الشديد من جانب الأطراف الدولية والإقليمية). وحتي الآن، فإنها الدولة الوحيدة التي أدت قوة التأثير السياسي لها إلي تشكيل الحالة الراهنة للمنطقة، فقد مثلت ثورتها نموذجا للتغيير أدي إلي قلب الإقليم رأسا علي عقب، مع وجود أطراف أخري تحاول، بالطبع، تحديد مسار التفاعلات الإقليمية، كالسعودية والناتو. لكن المستقبل يشير إلي اتجاهين بشأن تأثيرها الإقليمي:

1- سيناريو الإمبراطورية، ومضمونه واضح، وهو أن تتمكن مصر من استعادة قوة الدولة بوظائفها المختلفة، خاصة حفظ الأمن، والتوصل إلي صيغة تضمن الاستقرار السياسي، والتماسك الاجتماعي، وربما الانفتاح الثقافي، والتحرك نحو نمو اقتصادي سريع، واجتذاب استثمارات الشركات الدولية متعددة الجنسيات، مع تنشيط المشروعات القومية الكبري، التي تضمن قيام دولة مدنية حديثة. وفي هذه الحالة، سيظهر ما سيسمي "النموذج المصري"، الذي قد يقلب المنطقة رأسا علي عقب مرة أخري.

2- سيناريو المستعمرة، ومضمونه واضح أيضا، فلا توجد حاجة لإعادة رصد التصريحات أو التقديرات الصادرة من كل اتجاه، والتي تقرر أن ما سيجري في مصر سيحدد شكل الإقليم في الفترة القادمة. وهي مسألة شديدة الخطورة، إذ إنها بدأت تطلق تيارا مشابها لما سماه باتريك سيل في وقت ما "الصراع علي سوريا"، اسمه "الصراع علي مصر". ويمكن بقليل من البحث معرفة كيف تفكر العواصم الإقليمية الرئيسية في مصر في وضع تبدو فيه أكثر استعدادا للتحرك السريع، وبموارد كبيرة، فهي كلها لم تشهد ثورات. والسؤال هنا يدور حول مدي استعداد مصر للتعامل مع هذا الموقف، الذي يمكن أن يتحول إلي فرصة.

في النهاية، فإن الشرق الأوسط يمر، في الوقت الحالي، بمفترق طرق آخر، كما كان دائما، لكن الفارق هذه المرة هو أن هناك فرصة حقيقية للتفاؤل بشأن تعبير "الربيع العربي" لتتحول المنطقة إلي إقليم، علي غرار "جنوب شرق آسيا" علي سبيل المثال. أما إذا لم يحدث ذلك، فإن ما سنشهده سيشبه فصل الصيف الذي شهدته منطقة أمريكا اللاتينية في السبعينيات، وسيكون علي الإقليم أن ينتظر طويلا بعدها، قبل أن تأتي قوي التاريخ  Forces of History  بفرصة جديدة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد عبدالسلام

    د. محمد عبدالسلام

    مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المدير الأكاديمي لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبو ظبي، حاليا، رئيس تحرير‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬من‮ ‬2011‮ ‬إلي‮ ‬2012‭.