حينما قامت ثورة25 يناير كان الأمل أن تكون نقلة نوعية نحو الدولة العصرية المدنية الحديثة, لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن, حيث تحول الربيع العربي إلي خريف ساخن, بعد أن تحولت الثورة إلي فوضي تكاد تقتلع الأخضر واليابس, وبدلا من تحقيق حلم إقامة الدولة الديمقراطية العصرية الحديثة تحول الحلم إلي كابوس, وبدأت الفوضي تدب في جميع مفاصل الدولة, وتحولت أماكن العمل والإنتاج إلي خرابات كبيرة, وهجر العمال أماكنهم, وهرب المستثمرون بأموالهم, وبدأت حرب غريبة وشاذة علي مؤسسات الدولة, فكانت المحاولات المستمرة لاقتحام وزارة الداخلية, وحصارها من أجل إسقاطها إلي الأبد, وكذلك حصار وزارة الدفاع, في سابقة غريبة وغير معقولة علي الإطلاق, خاصة أن الجيش كان دائما وأبدا هو ظهير الشعب وسنده وحاميه, ولم يتخل أبدا عن مهامه, وكان ولا يزال ينتصر لإرادة الشعب, فهو من الشعب وإليه, وهكذا استمرت خطة ضرب مؤسسات الدولة, مثل حرق المجمع العلمي, ومحاولة اقتحام المتحف المصري, ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي, ومحاصرة دار القضاء العالي والمحكمة الدستورية العليا, والأمثلة كثيرة ومتعددة في إطار ضرب مؤسسات الدولة. وأصبح الشارع المصري تحت رحمة البلطجية والحرامية وتجار السلاح, وهرب المسجلون خطر من السجون وأصبحوا يمثلون قوة لا يستهان بها في تسيير حياة المواطنين, حتي كدنا نعود إلي عصر فتوات الحارة, في روايات نجيب محفوظ الشهيرة.
لم يكن هناك بد من انتفاضة الشعب مرة أخري, ليعيد تصحيح المسار, ولينقذ دولته من المهالك التي كانت تنتظرها, فكان المشهد الرهيب في30يونيو, حينما خرجت الجموع الغفيرة في كل ميادين مصر ومحافظاتها المختلفة, لتعبر عن رفضها الحالة التي وصلت إليها مصر آنذاك, وضرورة إنقاذها من مصير أسود محتوم ينتظرها, علي غرار ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن, في إطار المخطط الشيطاني لتفتيت الدول العربية وتدميرها, وكانت مصر هي درة التاج, كما يقولون, فلو سقطت مصر لانتهي العالم العربي والإسلامي إلي الأبد, وكان من السهل بعد ذلك تدمير السعودية ودول الخليج وبقية الدول العربية, بلا استثناء.
خرج الشعب في ثورة حاشدة, لإنقاذ الدولة المصرية من مخاطر الحرب الأهلية والتقسيم والتفتيت, واستجاب الجيش لثورة الشعب, كما استجاب من قبل في25 يناير, فهذه سمات الجيش الوطني المحترم الذي ينحاز دائما وأبدا لإرادة شعبه لتدور عجلة الإنقاذ وتبدأ خريطة الطريق والمرحلة الانتقالية, ثم استكمال بقية مراحل خريطة الطريق, من دستور وانتخابات رئاسية وبرلمانية.
هكذا عادت مصر من جديد, بعد أن دخلت إلي نفق مظلم ومصير مجهول.
لن ننسي ما كانت يحدث في الطرقات من سرقات في عز الظهر كما يقولون, وأصبحت سرقة السيارات تتم علي مدي الساعة, وتكرر مشهد اقتحام الشقق, واحتلالها من قبل البلطجية والحرامية, وعاد فتوات الحارة تحت مسمي اللجان الشعبية.
أنقشعت الغمة وسقطت دولة الفاشية الدينية بعد أن رفض الشعب سقوط دولته, وأصر علي إزاحة كل من كان يسعي إلي ذلك, في مشهد رائع وفريد يؤكد عظمة الشعب المصري, وقدرته علي النهوض بسرعة من أي كبوة مهما تكن قسوتها وحدتها.
في كلمته أمس الأول, أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي إلي ثلاثة مسارات مهمة نجحت فيها ثورة30 يونيو أولها مسار إنقاذ الدولة من الإرهاب والتطرف.
هذا المسار ورغم أن مصر قطعت فيه شوطا كبيرا لكن مازالت المخاطر قائمة تهدد أركان الدولة, ولاتزال الحرب شرسة في محاولة للنفاذ مرة أخري, وحتي الآن تحاول قوي الشر والإرهاب أن تقوم بعمليات قذرة تستهدف رجال الجيش والشرطة, لضرب وحدة الشعب المصري وتقويض عزيمته, لكن كل هذه المحاولات البائسة تتحطم علي صخرة إرادة الشعب المصري الصلبة وحبه الحياة, وتلاحمه وارتباطه الوثيق بقواته المسلحة وشرطته, والأمر المؤكد أن الارتباط يزداد يوما بعد يوم بين الشعب وقواته المسلحة وشرطته, لأنه لن يقبل أحد تكرار سيناريو الفوضي والخراب الذي أفلتت منه مصر بفضل الله أولا, ووعي شعبها ومساندة القوات المسلحة ثانيا.
المسار الثاني الذي تحدث عنه الرئيس هو مسار مواجهة القوي الخارجية الداعمة للإرهاب وجماعات التطرف, ولقد كانت مصر من أوائل الدول التي حذرت من الإرهاب كموجة عالمية, ووقف الرئيس عبدالفتاح السيسي علي منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة, في أول خطاب له هناك بعد توليه السلطة في مصر محذرا من الإرهاب كجريمة عالمية, ومطالبا بتحالف دولي قوي وفاعل في مواجهته, وللأسف كانت الاستجابة الدولية بطيئة في البداية, حيث كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما ضمن من تورط في دعم شبكات الإرهاب وتمويل الجماعات المتطرفة, لكن بعد تغيير الإدارة الأمريكية بدأت الأمور تتغير بسرعة, وظهرت بوادر تحالف عربي ودولي ضد القوي الداعمة والممولة للإرهاب والتطرف, كما يحدث الآن مع دولة قطر التي ثبت تورطها في دعم وتمويل جماعات التطرف والإرهاب في مصر وسوريا وليبيا والسعودية والإمارات والبحرين, مما جعل مصر والسعودية والإمارات والبحرين تتخذ موقفا موحدا ضدها, بل إن العديد من القوي الدولية الآن بدأت تتفهم ذلك الموقف وتنضم إلي الموقف المصري والخليجي المطالب قطر بإعلان موقف صريح وواضح وعملي ضد الإرهاب.
قطر هي البداية لكشف الدول الداعمة والراعية للإرهاب والتطرف, واعتقد أن الأمور تسير في طريقها الصحيح, لمحاصرة تلك الدول, وتجفيف منابع تمويل الإرهاب, وإذا نجحت تلك الخطة فالإرهاب إلي زوال, لأن فاتورة الإرهاب مكلفة وباهظة الثمن, وهناك من يمول ويرعي ويدفع, ولا بد من تجفيف تلك المنابع فورا وإلي غير رجعة.
قبل ثورة30 يونيو أهتزت مكانة مصر بعنف في عالمها العربي والإفريقي والدولي, ولقد عشنا تلك الظروف, ورأينا كيف استغلت إثيوبيا الأوضاع المصرية, وحاولت فرض واقع غير مقبول في سد النهضة, لكن مصر الآن استعادت مكانتها العربية والإقليمية والإفريقية والعالمية, لأنها انتهجت الحوار المباشر, ولغة المصالح المتبادلة, وبدأت حلحلة أشياء كثيرة, وأبرزها سد النهضة, وكانت البداية توقيع اتفاق النيات, ثم اتفاق الدراسات الفنية, وكلها خطوات تحفظ لمصر حقوقها المائية, وفي الوقت نفسه, تتفهم مصالح الدول الأخري.
عادت مصر إلي محيطها الإفريقي, كما عادت إلي محيطها العربي, وأصبحت مركز الثقل في المنطقة للعلاقات الدولية, وعاد التوازن إلي علاقات مصر بالقوي العظمي, أمريكا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي, دون انحياز أو استقطاب إلا بما يخدم المصالح المصرية الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
نجاح ثورة30 يونيو أوقف مخطط التدمير والتفتيت في المنطقة العربية كلها, وأعتقد أن الدول العربية الآن باتت أكثر استيعابا لهذا الموقف ومنحازة إليه بكل قوة.
المسار الثالث الذي تسير فيه مصر الآن بقوة هو مسار الإصلاح الاقتصادي والسياسي, حيث بدأت عجلة الاقتصاد تدور من جديد, بعد أن أصيبت بالشلل التام, وللأسف عاشت مصر فترة تنتظر المعونات والإعانات من هنا أو هناك, في مشهد مخز لا يليق بمصر وشعبها وإمكاناتها, والآن تخوض مصر معركة اقتصادية كبري هي معركة الإصلاح الاقتصادي.. صحيح أنها معركة صعبة ومؤلة, لكنها معركة ضرورية وفاصلة, فإذا كنا أمام مريض بين الحياة والموت ينتظر إجراء جراحة هائلة لإنقاذه, فهل نختار الطريق الأسهل لكي يبقي بين الحياة والموت أم يتم إجراء الجراحة مهما تكن قسوتها لإنقاذه؟!
الإجابة طبيعية ومنطقية في ضرورة إنقاذ المريض, لكي يسترد عافيته, ويعود أفضل مما كان.
الحكومة مطالبة بتخفيف آثار عملية الإصلاح الاقتصادي, وضرورة الاستمرار في البرامج الحمائية التي أطلقها الرئيس في الأسبوع قبل الماضي, إلي جانب تشديد الرقابة علي الأسواق, والتدخل وقت اللزوم لفك الاختناقات ومنع الاحتكارات, حتي يتم اجتياز هذه المرحلة بأقل أضرار ممكنة, وبما يسهم في توفير الحد الأدني الكريم لحياة المواطنين معدومي الدخل ومحدوديه.
الأمر المؤكد أن الشعب المصري عظيم, وأنه قادر علي التفرقة بين الغث والسمين, وأنه لن يقع مرة أخري في براثن دعاة الفوضي والفتنة, لأنه عاش التجربة المريرة والصعبة.
تجاوز هذه المرحلة يجعل الطريق ممهدا لتحويل حلم إقامة الدولة الديمقراطية العصرية الحديثة إلي حقيقة واقعة, خاصة بعد أن تم استكمال المؤسسات الدستورية للدولة, وعودة الاستقرار السياسي, بعد غياب دام ثلاث سنوات عقب قيام ثورة25 يناير.
لا بد من العمل ليل نهار بإخلاص وإصرار, مع التحلي بالصبر, لكي تعود الأمور أفضل مما كانت عليه, بعد أن قطع الشعب المصري المسافة الأصعب, واستطاع إنقاذ دولته, ويبقي الأمل قويا ومشرقا لكي يتحقق الأمل والحلم في الدولة العصرية الديمقراطية الحديثة التي ننشدها منذ عقود طويلة, وآن الأوان لتحقيقها علي أرض الواقع.
----------------------------------
*نقلا عن الأهرام المصرية، 2-7-2017.