انتقال الولايات المتحدة من مهمة قتال تنظيم الدولة الإسلامية والتحول إلى طرف في الأزمة السورية هو المؤشر الوحيد على جديتها في حصار النفوذ الإيراني.
ثمة من يعتقد في الولايات المتحدة أن على واشنطن القبول بـ”الهلال الإيراني” باعتباره أمرا واقعا. هنا يجب التمييز بين محورين تعمل عليهما إيران بالتزامن: “الهلال العقائدي” الذي يأخذ منحى طائفيا، و”الممر الاستراتيجي” الذي يحمل أهدافا تقوم على الارتباط الجغرافي.
الأول لا يقف عند حدود مانعة، وليس شرطا أن يكون متصلا جغرافيا. هذا يشمل العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، وأي دولة أخرى تسكنها أقلية شيعية.
“الممر الاستراتيجي” يجب أن يكون مرسوما على خط مستقيم ويعبر دولا تقع بجوار بعضها البعض؛ وهي العراق وسوريا ولبنان حصرا. هذا “الممر” هو القاعدة المبدئية التي يجب تثبيتها جيدا كي يقوم عليها “الهلال” لاحقا.
سلوك الولايات المتحدة في المنطقة يبدو حائرا. في سوريا ثمة استراتيجية أميركية تشرف عليها وزارة الدفاع (البنتاغون) مغايرة لتلك الاستراتيجية المعلنة. الاستراتيجية الأميركية المعلنة تنقسم إلى شقين: محاربة التنظيمات المتشددة وعلى رأسها داعش، وتحجيم النفوذ الإيراني.
لكن ما نشهده اليوم في كل من العراق وسوريا هو إبطاء سرعة تنفيذ الشق الأول، من أجل دفع الشق الثاني إلى الأمام. بكلام أكثر وضوحا الولايات المتحدة تحارب النفوذ الإيراني على الورق، من أجل أن ينعكس ذلك على محاربة داعش على الأرض.
بات واضحا أن محور “طهران – بيروت” قد سبق الولايات المتحدة إلى المنطقة. سياسة اللافعل التي تبنتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما صارت تقوض سياسة الفعل التي يحاول الرئيس دونالد ترامب انتهاجها.
مشكلة المسؤولين الكبار في الإدارة الجديدة أنهم حينما قرروا العودة مرة أخرى إلى سوريا، كانت تسيطر عليهم فكرة استعادة حصة روسيا في سوريا، وتأجيل الكلام عن حصة إيران إلى حين الانتهاء من داعش.
الأمر يكاد يكون نسخة طبق الأصل في سوريا والعراق. الطائرات الأميركية المشاركة في معركة تحرير الموصل من تنظيم داعش، تعمل دون أن تدري على تقديم الغطاء الجوي لاكتمال الممر الإيراني الذي يمر عبر تلعفر وبعاج، في الطريق إلى الحدود مع سوريا.
هذه رؤية تقوم على الاستعجال. تحرير الموصل، وإطلاق معركة الرقة في وقت واحد، يهدفان إلى تحقيق إنجاز استراتيجي مؤقت، بغض النظر عن الحسابات المستقبلية. في الموصل مثلا، ليست ثمة استراتيجية متماسكة لمرحلة ما بعد داعش، كما لم تكن هناك استراتيجية قبل ظهوره. الفرق الوحيد الذي حدث منذ ذلك الحين هو أنه بدلا من أن يكون نفوذ إيران منحصرا نسبيا في الجنوب، صار الآن موزعا على كل الأراضي العراقية. لو كانت هذه هي الاستراتيجية الأميركية في سوريا أيضا، فلن يكون ثمة جديد. هذه هي أميركا التي نعرفها. تكرار للفشل في كل ملف في المنطقة، مهما بلغ حجمه.
العقلية الأميركية في سوريا تقوم على إحراز الأهداف بالعافية. هناك من يفكر في البيت الأبيض وفي البنتاغون مثلما يفكر الرئيس الروسي فلايمير بوتين.
ضرب قاعدة الشعيرات الجوية، وإسقاط طائرة تابعة للجيش السوري منذ أيام هي سياقات متشابهة بأدوات مختلفة، ضمن “حوار القوة” المتبادل الآن بين واشنطن وموسكو على الأراضي السورية. صرنا أمام زعيمين مستعدين لتكرار أزمة الصواريخ الكوبية دون أدنى تردد. هذا حوار لا يسمع فيه الطرف الأول ما يقوله الطرف الثاني.
الولايات المتحدة تدرك أن روسيا قدمت كل ما عندها، ولا تملك أكثر من ذلك كي تمنحه لنظام بشار الأسد. روسيا أيضا تفهم أن الولايات المتحدة مقيدة بإرث أوباما، الذي لم يترك لها أي مساحة للحركة لفرض أجندتها. الولايات المتحدة دخلت المباراة وهي خاسرة من قبل أن تبدأ.
خسارة الولايات المتحدة تكمن في بطء تنفيذ رؤيتها القائمة على ساق واحدة: محاربة داعش فقط.
ضرب الطائرات الأميركية لقافلة تابعة لحزب الله هذا الشهر قرب قاعدة التنف مثلا كان رد فعل عسكري وليس فعلا. التمركز في هذه المنطقة، والسيطرة على معبر التنف على الحدود العراقية-السورية هو تصرف من يسعى إلى “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، وليس من يملك رؤية واضحة.
حماية المنطقة المحيطة بالتنف هي محاولة لقطع الطريق المار عبر إيران ومحافظة كربلاء العراقية ومدينة الرطبة، ثم معبر التنف وصولا إلى تدمر ودمشق في سوريا. لكن ماذا عن محور تلعفر وبعاج وميادين ودير الزور وتدمر ودمشق؟
كلام السفير الأميركي السابق روبرت فورد في حديث صحافي مؤخرا كان واضحا. الولايات المتحدة تعلم أن المد الإيراني لا يأتي من العراق فقط. هذا طريق ذو اتجاهين.
المنبع الموازي للمد الإيراني يأتي أيضا من بيروت ومن مطار دمشق. الولايات المتحدة تبدو مستعدة للتعايش مع ذلك ولو مؤقتا.
لا مشكلة في واشنطن من حصر النفوذ الإيراني في هذا الخط طالما لن يمتد في الوقت الحالي إلى أبعد من ذلك. هذا يعني منطقة الخليج وما بعد السويس.
ستظل هذه النظرة الأميركية قائمة طالما ظلت الحرب الأهلية السورية مستبعدة من قائمة أولويات واشنطن. لن يصبح إيجاد حل للأزمة ممكنا طالما أن هناك قبولا في الولايات المتحدة ببقاء الأسد في السلطة.
انتقال الولايات المتحدة من مهمة قتال داعش والتحول إلى طرف في الأزمة السورية هو المؤشر الوحيد على جديتها في حصار النفوذ الإيراني.
هذا يعني التوصل إلى حلول سياسية لانتقال السلطة في سوريا والعراق معا. ستتطلب هذه الخطة وقتا وجهدا، لكن يجب أن تبدأ. علينا الانتقال إلى مرحلة ما بعد داعش، وليس الرجوع مرة أخرى إلى مرحلة ما قبله.
--------------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 22-6-2017.