ثمة علاقة ارتباطية بين طبيعة الصراعات وأشكالها، وما تشهده المجتمعات والدول من تطورات مادية وغير مادية. ذلك أن التعارض، كمضمون عام للفكرة للصراعية، يظل مرتبطا في مسببات بروزه، وتشكيل ملامح وأهداف أطرافه (أفراد، جماعات، دول)، بما تطرحه السياقات الحاضنة له من مصادر وقضايا جديدة (قيم، ومصالح) تكون موضعا للتنازع.
إذ عرف العالم، خلال التطورات المتعاقبة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، أنماطا من الصراعات التي تعددت قضاياها داخليا وخارجيا، واختلفت فواعلها (دول وغير دول)، وتباينت دوافع نشوبها، بحسب القوة الأكثر بروزا التي يتصارع الأطراف المتنازعة علي امتلاكها (سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية...) لتحقيق أهدافهم ومصالحهم، سواء أكان ذلك في سياق التفاعلات داخل الدول، أم النظام الدولي.
لذلك، شكلت القفزات التكنولوجية الهائلة في مجال الاتصال والمعلومات، في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي العشرين، سياقات جديدة لنشوب صراعات حول "النفوذ السيبراني" في الفضاء الإلكتروني. حيث عُدّ هذا الأخير ساحة واسعة للتفاعلات العالمية، انطوت في الأساس علي شبكات رقمية ذات صلة بين أجهزة الحاسوب، وأنظمة الاتصال والإنترنت المختلفة، بغرض تدفق المعلومات.
دار مضمون هذا التنازع السيبراني حول من يملك القدرة علي التأثير في مسارات تدفق المعلومات والاتصال في الفضاء الإلكتروني، بحسبان ذلك معيارا أساسيا -من جهة- لتقدم الدول والمجتمعات، ومدخلا يمكن للأطراف المختلفة -من جهة أخري- توظيفه في صراعاتهم نحو تحقيق أهدافهم ومصالحهم، لا سيما إن كانت متناقضة. وبلور جوزيف ناي - في هذا السياق- ما سمي"القوة السيبرانية cyber power"، وحددها بأنها: محاولة تحقيق أهداف ومصالح معينة، عبر استخدام مصادر المعلومات والأدوات الاتصالية المرتبطة بالفضاء الإلكتروني.
وعزز التنازع حول هذه القوة التأثيرية الجديدة حدوث تغيرات متزامنة في السياقات العالمية، مثل صعود دور الأفراد، مع رواج المنظورات الحقوقية والديمقراطية، وتنامي أدوار المجتمعات المدنية. في الوقت نفسه، انحسرت سيادة الدول نسبيا، وباتت الحكومات أمام وطأة التكيف السياسي والاقتصادي والثقافي مع ما أفرزته العولمة من تدفقات عابرة للحدود للأفكار والأفراد والسلع. (للمزيد طالع المجلة)