انتهت القمة الثامنة والعشرون في عمّان بأفضل مما توقّع كثيرون، وخرجت بنتائج تتفق مع التوجهات العربية العريضة، وتحقق قدراً من التلاقي مع الرأي العام العربي. وبعيداً عن استعراض هذه النتائج والمقررات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا بعد القمة؟ الانطباع السائد لدى البعض هو انتظار القمة اللاحقة التي سوف تستضيفها السعودية.
غير أن الأهم من انعقاد القمم هو متابعة مقرراتها وإدامة ما هو إيجابي في آخر قمة واستثماره. وأبرز هذه الإيجابيات أن العرب نجحوا في تظهير صورتهم أمام العالم ككيان قومي رغم تعدد دوله، وأن مؤسسات هذا الكيان ما زالت تعمل وإن ليس بفاعلية كبيرة.
وفي ذلك رسالة إلى الخارج كما إلى الداخل العربي، مضمونها أن النظام العربي رغم كل ما يشكو منه من عيوب وأعطاب فإنه ما زال يعمل، ويتمتع بقدر من التماسك. وبينما نجحت القمة في تحديد التحديات الخارجية، وعلى رأسها التحدي الصهيوني الذي تم تناوله في عدة فقرات في صدارة البيان الختامي، فإن تحدي القمة أمام ذاتها وأمام شعوبها يكمن في التحرّك لاحتواء البؤر الملتهبة وإطفائها، فلا يعقل أن يتم استحضار أطراف خارجية على رؤوس الأشهاد لمعالجة هذه الأزمات، فيما النظام العربي عاجز عن التحرك. إن أزمات سوريا واليمن وليبيا بالذات هي مثال على ما تقدّم. والجميع يرون رأي العين أن الأزمة السورية لم تحقق أي تقدم على طريق حلها، والخشية أن يجيء أي حل مستقبلي، أياً كانت وجهته ومضمونه متأخراً، بعد أن يكون هذا البلد العربي قد فقد الكثير من مقومات وجوده، بما يجعل إعادة الإعمار بجميع جوانبه في غاية الصعوبة، ومحفوفة بذيول الحرب الطويلة، ومن أهمها الانقسام الأهلي الذي أخذ يضرب جذوره. كذلك الحال في اليمن الذي تتواتر الأنباء عن شبح المجاعة الذي يهدد الملايين في هذا البلد، إلى جانب تقويض مظاهر الحياة والعمران فيه، وتدهور الوضع الصحي لأبنائه. وفي ليبيا فإن الجيوش تتنامى والتدخلات تتزايد، والاستقطابات الأهلية والمناطقية لا تخطئها العين. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يشهد فيه المشرق العربي هذه الأزمات الخطرة المركبة، فإن الجامعة العربية (بيت العرب كما هو مفترض) تشهد ركوداً وتخيم عليها مشاعر العجز والقنوط.
لقد أمكن للقادة العرب أن يجتمعوا بأكبر عدد منهم في القمة الأخيرة، وأن ينجحوا في تحقيق تقارب بين عدد من الدول العربية، ومغزى ذلك أن فرصة التوصل إلى جوامع مشتركة قائمة، وأن الخلافات العربية البينية باتت تثقل كاهل النظام العربي، وهو ما يثور معه التساؤل إن كانت هذه الإرادة السياسية التي تجلّت في قمة عمّان سوف تواصل مفاعيلها أم لا، علماً أن التحديات القائمة تتطلب بلورة رؤى سياسية جامعة تتيح للأطراف العربية أن تمسك مجدداً بالمصير العربي، وألا تترك الكيان العربي نهباً للتدخلات مختلفة المصادر والأهداف كما بيّنها البيان الختامي للقمة الأخيرة. وبموازاة ذلك فلا بد أن تعود للقضية الفلسطينية صدارتها، تفادياً لمزيد من الاستغلال الصهيوني- الأمريكي لإسدال الستار على قضية الأراضي العربية المحتلة، وعلى حق شعب فلسطين في الحرية والاستقلال على أرضه. إن تراجع النظام العربي وما اعتراه من ضعف وتشتت لم يصبّ إلا في صالح الأطراف الخارجية التي تقوم على الاحتلال أو صاحبة الأطماع غير المكتومة، وأنه من الواجب إحياء هذا النظام مع التمسك بحق نقده وكشف أوجه قصوره واختلاله، غير أن التشبث بهذا الحق ينبغي ألا يؤدي للذهاب إلى العدمية، ونعي كل ما هو قائم، فالحياة تكره الفراغ، ولن يملأ أي فراغ سوى القوى الأجنبية على اختلافها، إضافة إلى الكيان الصهيوني الذي ازداد تبجحاً بجبروته، وانتقل من ذلك إلى الحديث عن التعاون مع العالم العربي ضد الإرهاب، علماً أن الإرهاب الصهيوني هو من أسّس البيئة والنموذج لكل إرهاب يعانيه عالمنا العربي.
ما تحقق في القمة الأخيرة يستحق أن يؤسس لحالة جديدة تطلق مجدداً دينامية العمل العربي الجماعي في رحاب الجامعة وخارجها، وسوى ذلك فإن الأزمات الملتهبة لن تجد حلاً لها، وسوف يكون لها توابع تتسرب إلى خارج حدود بلدان الأزمات، وتخلق واقعاً جديداً يقوم على تقاسم النفوذ بين قوى أجنبية، وكما لو أن منطقتنا مهددة بالعودة إلى ما قبل قرن من الزمن، حين كانت دولنا المشمولة بالإمبراطورية العثمانية التي توصف بالرجل المريض، ما أثار شهية قوى أجنبية عدّة للتدخل وتقاسم النفوذ وتقرير مصير الكيانات والشعوب ورسم الخرائط، وما انعكس لاحقاً بظلاله الثقيلة على واقعنا.
----------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 3-4-2017.