بلغت الولايات المتحدة في عصرنا تلك النقطة من نقاط الانعطاف الكبرى في تاريخ البشر، لكنها في النهاية- كما جرى لغيرها من القوى الكبرى في التاريخ- ستخضع لديناميكية الحركة العامة للقِوى التاريخية، من إعادة النظر في كل شيء، وتحليل كل شيء، واختبار كل شيء يتعلق بنشأة أمريكا، وببنائيات الفعل المادية الجدلية والمادية التاريخية اللتين قامت عليهما إيديولوجيا الإمبراطورية الأمريكية، واستمدت منهما المبررات لفرض هيمنتها على الولايات الدائرة في فلكها.
وهنا يتبادر تساؤل عما ينبغي أن تقوم به الولايات المتحدة حفاظاً على وحدتها رغم التحديات مستلهمة دروس الماضي الذي يعيش في الحاضر وبجوهر المستقبل؛ فالأمم الحية تتخذ من الحاضر نقطة تسترجع منها الماضي لتستبق المستقبل. فعمل الإنسان ليس بعمل الآلة الجامدة الرتيب، إنه انفعال وفعل، إنه إبداع أو تعديل أو تبديل أو تجديد.
بالرغم من أن الولايات المتحدة تبدو في العالم بمظهر القوة العظمى التي لا تقهر، لكنها من الداخل تعاني مشاكل كثيرة تنخر باطنها وتقتات تماسكها، فالتباين العرقي بين الأجناس فيها، والخلفية التاريخية للولايات التي تتكون منها، كل ذلك يجعل هذه الدولة في مهب التغييرات الجيوسياسية التي تعصف بالعالم. وتعد ولاية كاليفورنيا واحدة من أكبر الولايات الأمريكية وأكثرها ثراءً، لكنها تبدو على موعد مع افتراق تاريخي مع الدولة الأم، فهذه الولاية يسودها عدم رضا عن الاتحاد بسبب السياسات الضريبية المتبعة فيه، فهي تسدد سنوياً ضرائب بحجم 16 مليار دولار، وأكثر مما تحصل عليه من المركز الفدرالي لتمويل الخدمات الطبية والتعليم وتطوير البنى التحتية. ونتيجة لهذا يتباين الوضع فهي تدفع النسبة الأعلى من الضرائب، لكنها على الرغم من ذلك تحصل على أسوأ العائدات في التعليم. ويريد سكان الولاية التصرف بعوائد كاليفورنيا الضريبية بأنفسهم، وليس إعالة الولايات الأخرى. وكانت نفس هذه المشكلة يعانيها الاتحاد السوفييتي السابق، فقد كان شعور الروس والأوكرانيين بأنهم يتحملون النصيب الأكبر من الأعباء الاقتصادية، وأنهم يعيلون بقية الجمهوريات التي لم تكن تنتج شيئاً يذكر. وكان من نتيجة ذلك تفاقم الخلافات وانهيار الاتحاد السوفييتي في النهاية.
ويبدو أن كاليفورنيا ليست وحدها في هذا المطلب، بل تشاطرها فيه ولاية تكساس، ثاني أكبر الولايات من حيث المساحة، وهناك حركات سياسية نشطة في الولايتين تسعى لتحقيق الأهداف في الانفصال، والعيش بعيداً عن دولة الاتحاد، وربما لم يكن الاتحاد منذ البداية خياراً لغالبية الولايات الأمريكية، بل تم ضم ولايات عديدة عنوة، ومنها ما تم شراؤها بالمال؛ مثل مقاطعة لويزيانا الفرنسية التي اشترتها الدولة الأمريكية عام 1803 من نابليون، وهي تشمل اليوم خمس عشرة ولاية هي (أركانساس، ميزوري، وآيوا، أوكلاهوما، كانساس، و نبراسكا، بالإضافة إلى أجزاء من مينيسوتا، وأغلب نورث داكوتا، ومعظم ساوث داكوتا، والجزء الشمالي الشرقي من نيومكسيكو، وشمال تكساس، والأجزاء الشرقية من مونتانا، ووايومنغ، وكولورادو، والجزء الغربي من لويزيانا، الذي يشمل مدينة نيو أورلينز).
كما اشترت الولايات المتحدة ولاية فلوريدا من إسبانيا، واشترت آلاسكا من روسيا. أما تكساس فقد تم انتزاعها، قسراً من المكسيك، وضمها عام 1845، وكان ذلك سبباً لاندلاع الحرب المكسيكية الأمريكية في العام التالي، والتي انتهت بهزيمة المكسيك، وسيطرة الولايات المتحدة على تكساس ومعها نيومكسيكو، وكانت جماعة من المستوطنين في كاليفورنيا قد استغلت الحرب وتمردت على الحكومة المكسيكية، وأسست جمهورية كاليفورنيا. ولم تحترم الحكومة الأمريكية إرادة أولئك المستوطنين، وأمرت جيشها باحتلال كاليفورنيا، كما احتلت منطقة سان فرانسيسكو، ومن ثم لوس أنجلوس، وقد أكمل ذلك السيطرة الأمريكية على كاليفورنيا. ووفق أحدث استطلاع للرأي أجري في هذه الولاية فقد أيد فكرة الاستقلال 3600 شخص من مجموع 9000 شخص جرى استطلاع رأيهم. وتسمح قوانين الولاية بالبدء بعملية التمهيد لفصل كاليفورنيا عن الولايات المتحدة؛ حيث يسود فيها مفهوم يسمى «مسار المبادرة»، والذي يسمح لأي مواطن من الولاية بإجراء استفتاء حول أي مسألة في حال جمعه كمية كافية من التوقيعات التي يجب ألا تقل عن 400 ألف توقيع. وفي هذه الحالة تصبح حكومة ولاية كاليفورنيا ملزمة بإجراء تصويت على مستوى عموم الولاية. وتعتزم حركة «نعم كاليفورنيا» التي يقودها لويس مارينللي، البدء بحملة جمع التواقيع من أجل إجراء الاستفتاء في هذا العام، وفي حال وافق غالبية سكان الولاية على الانفصال وتكوين دولة مستقلة، فإن الولايات المتحدة قد تكون مضطرة للاعتراف باستقلال الولاية، وقد يكون ذلك بداية لتشظي وانهيار هذه الدولة العظمى على مثال الاتحاد السوفييتي السابق.
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 29-1-2017.