في كلمته، التي ألقاها خلال جولته التفقدية لجنوبي الصين عام 1992، قال الزعيم الصيني الراحل دنج شياو بينغ: "ربما نحتاج إلي ثلاثين سنة أخري لتشكيل مجموعة كاملة من النظم الأكثر نضوجا والأكثر رسوخا في المجالات المختلفة".
الموعد الذي أشار إليه السيد دنج، مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، يصادف احتفال الصين عام 2021 بذكري مرور مئة سنة علي تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، وهو التاريخ ذاته الذي تستهدف فيه القيادة الصينية تحقيق "مجتمع الحياة الرغيدة علي نحو شامل" (شياو كانغ بالصينية)(1). وفي النصف الثاني من عام 2017، يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الوطني التاسع عشر، الذي يضع سياسات الصين لمدة خمس سنوات تمتد حتي عام 2022، في ظل تغيرات داخلية، وإقليمية، ودولية عميقة، ووسط تكهنات متباينة بمستقبل التنمية الصينية بعد تراجع معدل النمو السنوي للاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة. وتسعي هذه الورقة إلي بحث مدي كفاية نمط التنمية الذي تنتهجه الصين لمواصلة تقدمها وصعودها الدولي.
من الأهمية بمكان، قبل تحليل "التنمية الصينية" وتجلياتها في سياساتها الداخلية، والإقليمية، والدولية، التوقف عند الخلفية الفلسفية والثقافية للصين، والتي لا تزال محددا مهما لرؤيتها لنفسها وللعالم. يقول البروفيسور فرانسوا جوليان، الأستاذ بجامعة باريس السابعة، في مقال بالنشرة العربية لصحيفة لوموند دبلوماتيك لشهر أكتوبر 2006، بعنوان "الصين في مرآة الغرب": "يبدو لي أن المفكر الصيني في العصور القديمة طور فكرة ما أسميه بـ "الجهوزية"، أي ترك كل الإمكانات مفتوحة. ذلك أن ما يخشاه الإنسان "الحكيم" هو التحيز الذي يقوده، إذا ما اصطدم ببعض ظواهر الأشياء، إلي فقدان الآخر". وقد قال مونشيوس عن كونفوشيوس: "عندما كان من المناسب أن يتولي مهمة، كان يتولاها. وإذا لم يكن مناسبا، تخلي عنها". وهناك علي الأقل طريقتان لتصور موقف الصيني "البين بين"، إذ يمكن فهمه علي أنه نقطة توازن بين حدين. فـ "البين بين" لدي الحكيم الصيني هو القدرة علي القيام بكلا الأمرين، مع بقاء "الانفتاح بالتساوي" علي الحدين. وفي هذه "المساواة"، يقوم "الوسط". ولا يعني ذلك عدم ملازمة الحذر في منتصف الطريق ما بين هذا وذاك.