تقترب الحملة الانتخابية الأميركية من نهايتها، ومعها يكاد القلق يصل إلى ذروته. تابعنا انتخابات عديدة جرت في الولايات المتحدة، ولا شك في أن القلق كان موجوداً في أغلبها. لا أتحدث هنا عن قلق الأميركيين أصحاب الشأن الأكبر في انتخابات تأتي لهم برئيس يحكم وقد يتحكم لأربعة وربما ثمانية أعوام. أتحــــدث عن قلق عام في أنحاء العالم كله. إذ منذ أن خرج على البشرية رئيس أميركي يبشر بمبادئ ويدعو لالتزامها ويثبت جديته وقوة دولته بانغماسه في أول حرب عالمية تحت قيادته، منذ ذلك الحين صارت الانتخابات الرئاسية الأميركية شأن كل الناس في كل مكان. لا شعب في العالم مهما كان حجمه أفلت، في ظني، من تدخل مباشر أو غير مباشر من جانب جهاز أو أكثر من الأجهزة السياسية والأمنية والاقتصادية الأميركية في شأن من شؤونه. لذلك يبدو طبيعياً هذا الاهتمام الفائق لدى الكثيرين في الشرق الأوسط من المقيمين فيه والمهاجرين منه بتطورات الحملة الانتخابية. قابلت من المهتمّين بشدة أكراداً من العراق ومن سوريا ومن تركيا، كنت أقابلهــــم على امتداد انتخابات أميركية سابقة. كانوا مهتمّين، ولكن اهتمامهم هذه المرة غير مسبوق ومصحوب بدرجة عالية من القلق. قابلت أيضاً في الشهور الأخيرة مسيــــحيين من دول عديدة في المنطقة. كان المسيحيون المصريون أكثر مَن قابلت بطبيــــعة الحال، وإن لم يكونــــوا بين الأشد اهتماماً كالعراقيين مثلاً. كلهم على كل حال مهتمّون بالحملة الانتخابية وتطوراتها المذهلة وكلهم قلقون.
قلقون كذلك أغلب حكام الشرق الأوسط، وربما كلهم. يزداد قلقهم وقلق من يجري في فلكهم من مؤيدين ومعارضين مع كل تغير يظهر في مزاج الرأي العام الأميركي. هؤلاء ابتداء في أقصى الشمال بأردوغان وخصومه من أتباع غولن والأقليات وفلول العسكريين والاستخبارات وانتهاء في أقصى الجنوب بعبد ربه منصور هادي وعبد الله صالح و «الحوثيين» و «القاعدة» وتجار الحرب والمنشغلين بها، هؤلاء جميعاً يتخوّفون من مرحلة مقبلة بلا ريب يكون في البيت الأبيض رئيس مقيد بمزاج أميركي جديد صاغته هذه الحملة الانتخابية غريبة الأطوار والأفكار.
كنا خلال الشهور الأخيرة شهوداً على عملية نزوح تاريخي كبير لعديد الحكام في الشرق الأوسط في اتجاه الشمال بعد سنوات بل عقود من استقرار بوصلة السياسة الخارجية والدفاعية في المنطقة على ناحية الغرب. المفارقة هنا هي أنه بينما يكاد يتوحّد الحكام في اختيار روسيا، أي الشمال، مقصداً لنزوحهم السياسي مؤقتاً كان أم أطول قليلاً، تكاد الشعوب تتوحّد في الإصرار على أن يكون الغرب الهدف الوحيد للجوء أو الهجرة. القوارب تبحر من شواطئ غرب آسيا نحو شواطئ البلقان وإيطاليا بينما الطائرات تنقل الرؤساء وحكوماتهم إلى سان بطرسبرغ وموسكو وسوتشي وآخرهم الرئيس روحاني إلى باكو عاصمة أذربيجان، حيث كان الرئيس بوتين في انتظاره خصيصاً قبل غيره.
سادت شكوك لدى حكام دول الإقليم قبل فترة غير طويلة في نيات الرئيس أوباما تجاه مستقبل علاقات بلاده ببلاد الشرق الأوسط وقضاياه. وقف وراء هذه الشكوك بيانات وخطط أميركية معلنة عن توجه جديد في السياسة العالمية لواشنطن يعتبر منطقة آسيا والباسيفيكي نقطة ارتكاز جديدة للسياسة الدفاعية الخارجية. فهمت قصور الحكم في عواصم الشرق الأوسط من إسرائيل غرباً إلى طهران شرقاً ومن أنقرة شمالاً إلى مسقط جنوباً أن أميركا قررت الانسحاب على مراحل من الشرق الأوسط. كان لهذه الشكوك ما يبررها وكان لبعض الظنون ما يؤكدها. المهم فيها من وجهة نظرنا أنها غرست في الرأي العام الأميركي بذور اقتناع بتراجع أهمية الــــشرق الأوسط، وبفكرة أخرى لا تقل أهمية وهي أن العمل السياسي والأمني في هذه المنطقة صار باهظ التكلفة ولن تتحمله طويلاً الخزانة الأميركية. حدث هذا قبل انغماس الولايات المتحدة في معركتها الرئاسية، ولا شـــك عندي في أنه بذلك يكون قد أسس للجدل الدائر في الحــــملة الانتخابية حول قضايا بعينها مثل جدوى تحالـــفات أميركا الخارجية والعلاقة مع الإسلام والهجرة.
لا أبالغ وأنا أقول إن ليس كل ما نطق به دونالد ترامب لغو بلا أساس. كارثة العراق التي تسبّبت فيها أميركا حقيقة واقعة. التهاون الأميركي مع ظاهرة التشدد والإرهاب الإسلامي جريمة سياسية ارتكبها رؤساء سابقون، ولكنها تفاقمت على أيدي أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون. التردّد الشنيع الذي تعاملت به إدارة أوباما، وربما أيضا الدرجة العالية من انغلاق جهاز صنع القرار في البيت الأبيض، كلاهما مسؤول مباشرة عن مسائل احتوى عليها الخطاب الانتخابي للمرشح ترامب. كذلك يصعب إنكار أن مجمل السياسات الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط ونتائجها سبب في نقص الهيبة الذي أصاب المكانة الأميركية لدى معظم دوائر الحكم في العالم العربي كما هو واضح بجلاء في الرياض كما القاهرة وأنقرة ودمشق، وكما طهران من جديد. جرى العرف في الصراع مع إسرائيل على اعتبار أن 99 في المئة من أوراق الصراع في يد أميركا، إلا أنه مع استمرار تناقص الهيبة الأميركية دفع الأطراف إلى قاعدة جديدة هي أن 99 في المئة من أوراق الصراع هي الآن في يد إسرائيل. بمعنى آخر، لم تعد الأطراف العربية تنتظر أن تسفر الانتخابات الرئاسية عن رئيس يعيد إلى أميركا دورها ليس فقط في الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن كذلك في مختلف قضايا المنطقة وأزماتها.
يخشى بعض أساطين التنظير لمستقبل علاقات أميركا مع الخارج من أن هذه الحملة تكون قد أثرت فعلاً في المزاج العام الأميركي، وبخاصة في اتجاه: أولاً، مزيد من التقلب والتردد في صنع القرار، ثانياً، تعميق الشكوك حول جدوى حلف «الناتو» ومنظومات تحالفات أخرى مثل الحلف من أجل نشر الديموقراطية، ثالثاً، نشر أجواء مفعمة بالخطورة تحيط بالإسلام كعقيدة والمسلمين كشعوب وحكومات وجماعات وأفراد. رابعاً، صورة العالم الخارجي، حال فوضى شاملة بلا أي أمل أو رغبة أو استعداد لبذل جهد لوضعها مرة أخرى في شكل «نظام».
تنتهي قريباً حملة الانتخابات لمنصب الرئاسة الأميركية، وفي ظني أن نهايتها لن تعني نهاية حال القلق الشديد وحال الاستقطاب العنيف اللذين كشفت عنهما الحملة ثم أضافت إليهما قلقاً أشد واستقطاباً أعنف، ليس في أميركا فحسب بل وفي العالم كله، وبخاصة في الشرق الأوسط.
---------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 18-8-2016.